عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 15 Oct 2019, 08:04 AM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





سأتابع إن شاء الله، على فصول، تفسير الإمام ابن القيم رحمه الله للآية: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾، من سورة الفاتحة، وفي كلامه، دَرَرٌ ولَآلِىء، جدير بنا أن نصطادها من عمق العلم والفقه الّذي حباه الله سبحانه، وقد استفدتُ كثيرًا، والحمدلله، من كتب الإمام رحمه الله، ومن كتب شيخه، شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله.

فو الله الذي لاإله إلاّ هو، لهي كتبٌ، تزخر بالفوائد والتّوجيه إلى العلاج الربّاني، للأنفس المريضة، والقلوب العليلة، في تسلسل منطقي، يتقبّله كلّ عقل، وقد دعّمُـ(وا)، كلامهم، رحمـ(هم) الله، بالكتاب والسُّنّة، بفهم سلف الأُمّة، يستأصلُـ(ون) كلّ داء -بإذن الله- أصاب الأُمّة الإسلاميّة، بعد القرون الثلاثة الخيريّة.
أمّةٌ، تخلّت عن الدّواء النّافع، وجرت، تلهث وراء كلّ ناعقٍ، يزعم وصف الشفاء، لمريض، أنهكته الذّنوب، والمعاصي، ونخرت، قلبه، أورام البدع والضّلالات.
لكن، هيهات، هيهات، أن تجد ما يريحها، في غير هدى الله، المتجلّي في كتابه الكريم، وسنّة نبيّه محمد الأمين صلى الله وسلّم، عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان، إلى يوم الدّين.

نبدأ، على بركة الله، في تفسير الإمام ابن القيم رحمه الله، للآية:

* (فصل)

قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ يتضمّن طلب الهداية ممّن هو قادر عليها وهي بيده، إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إيّاها.
والهداية: معرفة الحقّ والعمل به. فمَن لم يجعله الله تعالى عالمًا بالحق، عاملا به، لم يكن له سبيل إلى الاهتداء. فهو سبحانه المتفرّد بـالهداية الموجبة للاهتداء، الّتي لا يتخلّف عنها وهي جعل العبد مُرِيدًا للهُدَى، محبًّا له، مؤثرا له، عاملا به. فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرّب ولا نبي مرسل وهي الّتي قال سبحانه فيها: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ مع قوله تعالى: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فهذه هداية الدعوة والتّعليم والإرشاد وهي التي هدي بها ثمود، فاستحبّوا العمى عليها. وهي التي قال تعالى فيها: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُون﴾. فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجّته عليهم ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضلّ مَن هداه بها. فذاك عدله فيهم. وهذا حكمته، فأعطاهم ما تقوم به الحجّة عليهم ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم.

* (فصل)

والهِدايَة هي العلم بِالحَقِّ مَعَ قَصده وإيثاره على غَيره، فـالمهتدي هو العامِل بِالحَقِّ، المريد لَهُ. وهِي أعظم نعْمَة لله على العَبْد. ولِهَذا أمرنا سُبْحانَهُ أن نَسْألهُ هِدايَة الصِّراط المُسْتَقيم كل يَوْم ولَيْلَة في صلواتنا الخمس. فَإنّ العَبْد مُحْتاج إلى معرفَة الحقّ الَّذِي يرضي الله، في كلّ حَرَكَة ظاهرة وباطنة. فَإذا عرفها فَهو مُحْتاج إلى مَن يلهمه قصد الحق، فَيجْعَل إرادَته في قلبه ثمَّ إلى مَن يقدره على فعله، ومَعْلُوم أنّ ما يجهله العَبْد أضعاف أضعاف ما يعلمه، وإن كلّ ما يعلم أنّه حقّ، لا تطاوعه نَفسه على إرادته. ولَو أراده لعجز عَن كثير مِنهُ، فَهو مُضْطَرّ كل وقت إلى هِدايَة تتَعَلَّق بالماضي وبالحال والمستقبل.

أمّا الماضِي فَهو مُحْتاج إلى محاسبة نَفسه عَلَيْهِ، وهل وقع على السّداد، فيشكر الله عَلَيْهِ ويستديمه، أم خرج فِيهِ عَن الحق فيتوب إلى الله تَعالى مِنهُ ويستغفره، ويعزم على أن لا يعود.

وَأمّا الهِدايَة في الحال فَهي مَطْلُوبَة مِنهُ، فَإنَّهُ ابْن وقته، فَيحْتاج أن يعلم حكم ما هو متلبّس بِهِ من الأفعال هَل هو صَواب أم خطأ.؟

وَأمّا المُسْتَقْبل، فحاجته في الهِدايَة أظهر ليَكُون سيره على الطَّرِيق، وإذا كانَ هَذا، شَأْن الهِدايَة علم أنّ العَبْد أشدّ شَيْء اضطرارا إليها، وأن ما يُورِدهُ بعض النّاس من السُّؤال الفاسِد وهِي أنّا إذا كُنّا مهتدين فَأيّ حاجَة بِنا أن نسْأل الله أن يهدينا؟

وَهل هَذا إلاّ تَحْصِيل الحاصِل؟

أفسد سُؤال وأبعده عَن الصَّواب وهو دَلِيل على أنّ صاحبه لم يحصل معنى الهِدايَة ولا أحاط علما بـحقيقتها ومسمّاها. فَلذَلِك تكلّف من تكلّف الجَواب عَنهُ بأنّ المَعْنى: ثبّتنا على الهِدايَة وأدمها لنا.

وَمَن أحاط علما بحقيقة الهِدايَة وحاجة العَبْد إليها ، علم أنّ الَّذِي لم يحصل لَهُ مِنها أضعاف ما حصل لَهُ أنّه كل وقت مُحْتاج إلى هِدايَة متجدّدة، لا سيما والله تَعالى خالق أفعال القُلُوب والجوارح. فَهو كلّ وقت مُحْتاج أن يخلق الله لَهُ هِدايَة خاصَّة، ثمَّ إن لم يصرف عَنهُ المَوانِع والصوارف الَّتِي تمنع مُوجب الهِدايَة وتصرفها، لم ينْتَفع بالهداية ولم يتمّ مقصودها لَهُ، فَإنّ الحكم لا يَكْفِي فِيهِ وجود مقتضيه، بل لا بُد مَعَ ذَلِك من عدم مانعه ومنافيه.

وَمَعْلُوم أنّ وساوس العَبْد وخواطره وشهوات الغي في قلبه ، كلّ مِنها مانع وُصُول أثر الهِدايَة إليه. فَإن لم يصرفها الله عَنهُ لم يهتدِ هدًى تامًا، فـحاجاته إلى هِدايَة الله لَهُ مقرونة بأنفاسه وهِي أعظم حاجَة للْعَبد.

* فَصْلٌ: عَلَّمَ اللَّهُ عِبادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ الهِدايَةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ

وَلَمّا كانَ سُؤالُ اللَّهِ الهِدايَةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ أجَلَّ المَطالِبِ، ونَيْلُهُ أشْرَفَ المَواهِبِ: عَلَّمَ اللَّهُ عِبادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ، وأمَرَهم أنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ والثَّناءَ عَلَيْهِ، وتَمْجِيدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهم وتَوْحِيدَهُمْ، فَهاتانِ وسِيلَتانِ إلى مَطْلُوبِهِمْ، تَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وتَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ، وهاتانِ الوَسِيلَتانِ لا يَكادُ يُرَدُّ مَعَهُما الدُّعاءُ، ويُؤَيِّدُهُما الوَسِيلَتانِ المَذْكُورَتانِ في حَدِيثَيِ الِاسْمِ الأعْظَمِ اللَّذَيْنِ رَواهُما ابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ، والإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ.

-أحَدُهُما: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ «سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو، ويَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِأنِّي أشْهَدُ أنَّكَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا أنْتَ، الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أحَدٌ، فَقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَألَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ، الَّذِي إذا دُعِيَ بِهِ أجابَ، وإذا سُئِلَ بِهِ أعْطى» قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَهَذا تَوَسُّلٌ إلى اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ، وشَهادَةِ الدّاعِي لَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ، وثُبُوتِ صِفاتِهِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِاسْمِ الصَّمَدِ وهو كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "العالِمُ الَّذِي كَمُلَ عِلْمُهُ، القادِرُ الَّذِي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ"، وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: "هو السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِيهِ جَمِيعُ أنْواعِ السُّؤْدُدِ"، وقالَ أبُو وائِلٍ: "هو السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهى سُؤْدَدُهُ"، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هو الكامِلُ في جَمِيعِ صِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأقْوالِهِ، وبِنَفْيِ التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ "

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَقِيدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ، والتَّوَسُّلُ بِالإيمانِ بِذَلِكَ، والشَّهادَةُ بِهِ هو الِاسْمُ الأعْظَمُ.

والثّانِي: حَدِيثُ أنَسٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِأنَّ لَكَ الحَمْدَ، لا إلَهَ إلّا أنْتَ، المَنّانُ، بَدِيعَ السَّماواتِ والأرْضِ، ذا الجَلالِ والإكْرامِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ، فَقالَ: لَقَدْ سَألَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ» فَهَذا تَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ.

وَقَدْ جَمَعَتِ الفاتِحَةُ الوَسِيلَتَيْنِ، وهُما التَّوَسُّلُ بِالحَمْدِ، والثَّناءِ عَلَيْهِ وتَمْجِيدِهِ، والتَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ وتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ جاءَ سُؤالُ أهَمِّ المَطالِبِ، وأنْجَحِ الرَّغائِبِ وهو الهِدايَةُ بَعْدَ الوَسِيلَتَيْنِ، فالدّاعِي بِهِ حَقِيقٌ بِالإجابَةِ.

وَنَظِيرُ هَذا دُعاءُ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي كانَ يَدْعُو بِهِ إذا قامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، رَواهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ، أنْتَ قَيُّومُ السَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ، أنْتَ الحَقُّ، ووَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقاؤُكُ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، والسّاعَةُ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أنَبْتُ، ولَكَ خاصَمْتُ، وإلَيْكَ حاكَمْتُ، فاغْفِرْ لِي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ إلَهِي لا إلَهَ إلّا أنْتَ». فَذَكَرَ التَّوَسُّلَ إلَيْهِ بِحَمْدِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ وبِعُبُودِيَّتِهِ لَهُ، ثُمَّ سَألَهُ المَغْفِرَةَ.





الصور المرفقة
نوع الملف: jpg صراط الذين أنعمت عليهم.jpg‏ (65.0 كيلوبايت, المشاهدات 1775)
نوع الملف: jpg قد جاءكم الحق من ربّكم.jpg‏ (24.7 كيلوبايت, المشاهدات 1879)
رد مع اقتباس