عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 12 Nov 2019, 07:10 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي



ومن أبواب كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1206هـ): «باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جَناب التّوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك»، و«باب ما جاء أنّ الغلو في قبور الصالحين يصيِّرها أوثاناً تُعبد من دون الله»، و «باب ما جاء أنّ سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين»، و «باب ما جاء من التّغليظ فيمَن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!»، وقد أورد رحمه الله آيات وأحاديث وآثاراً في ذلك كما هي طريقته رحمه الله في هذا الكتاب، وهذا الكتاب من أحسن ما أُلّف في بيان توحيد الألوهية.

وقد ألَّف الإمام الشوكاني رحمه الله (1250هـ) رسالة سماها «شرح الصدور بتحريم رفع القبور» بيَّن فيها أنّ تعظيم القبور والغلو في أصحابها يفضي إلى الشرك، وقال: «فلا شكَّ ولا ريب أنَّ السببَ الأعظمَ الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما يُزيِّنه الشيطان للناس من رفعِ القبور ووضعِ الستور عليها وتجصيصِها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإنَّ الجاهلَ إذا وقعت عينُه على قبرٍ من القبور قد بُنيت عليه قُبَّة فدخلها ونظر على القبور الستورَ الرائعة والسُّرُجَ المتلألئة وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شكَّ ولا ريب أنَّه يمتلئ قلبُه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذِهنُه عن تصوُّر ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الرَّوعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مِمَّا يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه، فيصير في عدادِ المشركين، وقد يحصل له هذا الشركُ بأولِ رؤيةٍ لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زَورة، إذ لا بدَّ له أن يخطرَ ببالِه أنَّ هذه العنايةَ البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلاَّ لفائدة يرجونها منه، إمَّا دُنيوية أو أُخرويَّة، فيستصغرُ نفسَه بالنِّسبة إلى مَن يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومُتمسِّحاً بأركانه».

ومن أوضح ما يبيِّن أنّ الغلو في الصالحين وتعظيم القبور يفضي إلى الشرك ما قاله عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروسي ـ وهو في القرن الحادي عشر ـ في كتابه (النور السافر عن أخبار القرن العاشر) في ترجمة أبي بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة (914 هـ) قال (ص: 79): «وأمَّا كراماته فكثيرة كقطر السحاب، لا تدرك بِعدٍّ ولا حساب، ولكن أذكر منها على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث حكايات تكون كالعنوان على باقيها بالدلالة والتمثيل، منها:

أنَّه لَمَّا رجع من الحجِّ دخل زيلع، وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق، فاتفق أنَّه ماتت أمُّ ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها، فكاد عقلُه يذهب بموتِها، فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدَّة الجزع، ليُعزِّيه ويأمره بالصبر والرضاء بالقضاء، وهي مُسجاة بين يدي الحاكم بثوبٍ، فعزَّاه وصبَّره، فلَم يُفِد فيه ذلك، وأكبَّ على قدم سيِّدي الشيخ يُقبِّلُها، وقال: يا سيدي! إن لَم يُحي الله هذه متُّ أنا أيضاً، ولَم تبق لي عقيدة في أحد، فكشف سيِّدي وجهَها، وناداها باسمِها، فأجابته: لبَّيك! وردَّ اللهُ روحَها، وخرج الحاضرون، ولَم يَخرج سيدي الشيخ حتى أكلتْ مع سيِّدها الهريسةَ، وعاشت مدَّة طويلة!!!

وعن الأمير مرجان أنَّه قال: كنتُ في نفرٍ من أصحاب لي في محطَّة صنعاء الأولى، فحمل علينا العدوُّ، فتفرَّق عنِّي أصحابي، وسقط بي فرسي لكثرة ما أُثخن من الجراحات، فدار بِي العدوُّ حينئذٍ من كلِّ جانب، فهتفتُ بالصالِحين، ثمَّ ذكرتُ الشيخ أبا بكر رضي الله عنه، وهتفتُ به، فإذا هو قائمٌ، فوالله العظيم! لقد رأيتُه نهاراً وعاينتُه جهاراً، أخذ بناصيتِي وناصية فرسي، وشلَّنِي من بينهم حتى أوصَلَنِي المحطة، فحينئذ مات الفرس، ونجوتُ أنا ببَرَكتِه رضي الله عنه ونفع به!!!

وعن المُريد الصادق نعمان بن محمد المهدي أنَّه قال: بينما نحن سائرون في سفينةٍ إلى الهند، إذ وقع فيها خرقٌ عظيمٌ، فأيقَنوا بالهلاك، وضجَّ كلٌّ بالدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، وهتف كلٌّ بشيخِه، وهتفتُ أنا بشيخي أبي بكر العيدروس رضي الله عنه، فأخذتنِي سِنَة، فرأيتُه داخل السفينة، وبيده منديلٌ أبيض، وهو قاصدٌ نحو الخَرْق، فانتبهتُ فرحاً مسروراً، وناديتُ بأعلى صوتِي: أنْ أَبشِروا يا أهل السفينة! فقد جاء الفرَج، فقالوا: ماذا رأيتَ؟ فأخبرتُهم، فتفقَّدوا الخَرْقَ، فوجدوه مسدوداً بمنديل أبيض كما رأيتُ، فنجونا ببركته رضي الله عنه ونفع به!!!» اهـ.

وإذا كانت هذه حال أحد أشباه العلماء ممّن انتسب إلى العلم وشغل نفسه بالتأليف، فكيف تكون حال العوام الذين لا يقرؤون ولا يكتبون وهم يرون من أشباه العلماء، مَن يكون لهم قدوة سيئة، ويسمعون عنهم مثل هذه الحكايات المضحكات المبكيات؟! وصدق ابن كثير رحمه الله في قوله الوجيز: «وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام».

ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وكذا دعاء الغائبين من الإنس والجن والملائكة، شِرْكٌ مخرج من الملّة، لأنّ فيه صرف حق الله إلى غيره، وقد قال الله عز وجل: ﴿وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وروى الترمذي في جامعه (2969) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، قال: «الدعاء هو العبادة، وقرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ إلى قوله ﴿دَاخِرِينَ﴾»، ومَن كانت هذه حاله فهو كافر إن قامت عليه الحجة، ومَن لم تقم عليه تُوقف في تكفيره وأمره إلى الله وقد تكون حاله حال أهل الفترات الذين لم تبلغهم الرسالات وهم يُمتحنون يوم القيامة، وبعد الامتحان ينتهون إلى الجنة أو إلى النار، وقد أورد ابن كثير في تفسيره لقول الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاَ﴾ جملة من الأحاديث في ذلك، وقال: «إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها».

وقد أوردت في تقديمي لكتابَي «تطهير الاعتقاد» و «شرح الصدور» للصنعاني والشوكاني المطبوعة ضمن مجموع كتبي ورسائلي (4/337) جملة من أقوال أهل العلم في حكم مَن قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، ومنها قول شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «كذلك التوسل بالأولياء قسمان: (الأول) : التوسل بجاه فلان أو حق فلان، هذا بدعة وليس كفراً، التّوسل الثاني: هو دعاؤه بقوله: يا سيدي فلان انصرني أو اشف مريضي، هذا هو الشرك الأكبر وهذا يسمّونه توسّلاً أيضاً، وهذا من عمل الجاهلية، أمّا الأول فهو بدعة، ومن وسائل الشرك، قيل له: وقولهم: إنّما ندعوه لأنه ولي صالح وكل شيء بيد الله وهذا واسطة، قال: هذا عمل المشركين الأولين، فقولهم: مدد يا بدوي، مدد يا حسين، هذا جنس عمل أبي جهل وأشباهه، لأنّهم يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، ﴿هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾ [يونس: 18]، هذا الدعاء كفر وشرك بالله عز وجل، لكن اختلف العلماء هل يكفر صاحبه أم ينتظر حتى تقام عليه الحجة وحتى يبيَّن له، على قولين: أحدهم: أنّ مَن قال هذا يكون كافراً كفراً أكبر لأنّ هذا شرك ظاهر لا تخفى أدلّته، والقول الثاني: أنّ هؤلاء قد يدخلون في الجهل وعندهم علماء سوء أضلّوهم، فلابد أن يبيّن لهم الأمر ويوضح لهم الأمر حيث يتّضح لهم، فإنّ الله قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاَ﴾ [الإسراء: 15]، فإذا وضح لهم الأمر وقال لهم: هذا لا يجوز، قال الله كذا وقال الرسول كذا، بيّن لهم الأدلة، ثم أصرّوا على حالهم، كفروا بهذا، وفي كل حال فـالفعل نفسه كفر شرك أكبر، لكن صاحبه هو محل نظر هل يكفر أم يقال: أمره إلى الله، قد يكون من أهل الفترة لأنّه ما بيّن له الأمر فيكون حكمه حكم أهل الفترات، أمره إلى الله عز وجل، لأنَّه بسبب تلبيس الناس عليه من علماء السوء».

وكلامه هذا في كتاب «سعة رحمة ربّ العالمين» لسيد بن سعد الدين الغباشي (ص: 77) مأخوذ من شريط مسجل، وفي أوله صورة رسالة من الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله للمؤلف بتاريخ 7/5/1403هـ تتضمن الإذن بطبع الرسالة بناء على تقرير الجهة المختصة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، والغالب على الظن ـ إن لم يكن يقيناً ـ أن الشيخ رحمه الله قرئ عليه هذا الكلام المعزوّ إليه فيه فأقرَّه.

وأصحاب القبور يزارون ويُدعى لهم ولا يُدعَون، ويُطلب من الله لهم ولا يُطلب منهم شيء، لا دعاء ولا شفاعة ولا جلب نفع ولا دفع ضر، فإنّ ذلك إنّما يُطلب من الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يُدعى ويُرجى، وغيرُه يُدعى له ولا يُدعى؛ والدليل على ذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في حياته يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، وبعد موته صلى الله عليه وسلم في حياته البرزخية، ما كانوا يذهبون إلى قبره صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه الدعاء، ولهذا لمّا حصل الجدب في زمن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس رضي الله عنه وطلب منه الدعاء، فقد روى البخاري في صحيحه (1010) عن أنس أنّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللّهم إنا كنّا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون»، ولو كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته سائغاً لما عدل عنه عمر رضي الله عنه إلى الاستسقاء بالعباس.

وجاء في فتح الباري (2/495) قول الحافظ ابن حجر: «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: «أصاب الناسَ قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق لأمّتك، فإنّهم قد هلكوا، فأُتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر» الحديث، وقد روى سيف في الفتوح أنّ الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة».

وهذا الأثر في مصنف ابن أبي شيبة (12051) إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم إلى أبي صالح، وأما مالك الدار فمجهول، فلا يكون الأثر ثابتاً، وأيضاً الرجل السائل مبهم غير معروف، وأما تسميته ببلال بن الحارث المزني الصحابي فلا يصح، لأن الذي رواه سيف بن عمر وهو ضعيف لا يحتج به، وترجمته في تهذيب التهذيب مشتملة على ما قيل فيه من الجرح الشديد، وانظر تفصيل ذلك في كتاب «التوسل: أنواعه وأحكامه» للشيخ الألباني رحمه الله (ص: 116).

ويدل أيضاً لـكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُطلب منه الدعاء بعد موته ما رواه البخاري في صحيحه (7217) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فقالت عائشة: وا ثكلياه! والله إنّي لأظنّك تحب موتي...» الحديث، فلو كان يحصل منه الدعاء والاستغفار بعد موته صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فرق بين أن تموت قبله أو يموت قبلها صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث مبيِّن لقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وأنّ المجيء إليه وحصول الاستغفار والدعاء منه إنّما يكون في حياته وليس بعد موته صلى الله عليه وسلم، والسُنَّة تفسّر القرآن وتبيِّنه وتوضّحه.

...يتبع...إن شاء الله...

رد مع اقتباس