عرض مشاركة واحدة
  #34  
قديم 12 Oct 2020, 12:37 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



اليوم بإذن الله، سنشرع في إتمام البحث القيّم لابن القيّم رحمه الله، حول الهداية وأنواعها، وهو أروع بحث قرأته، على ما أظنّ من فهمي البسيط، لأنّ البحث هذا،فيما أعتقد، يجمع بين الطّرح المبسّط لمسألة الهداية، بأسلوب يفهمه أغلب مستويات العقول والأفهام، وبين الفوائد الغزيرة والأمثلة الكثيرة التي ساقها الإمام رحمه الله، لتبسيط الفكرة وتقريب المعنى إلى القارىء.
فجزى الله خيرا، ورحم الله إمامنا القيّم ابن القيّم، على ما قدّمه من خدمة جليلة للمسلمين ولغيرهم لفهم دين الله القويم.

يقول الإمام ابن القيّم رحمه الله، في كتابه: شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل:

فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع، وهو الكلام على الهداية العامّة التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الربّ تبارك وتعالى، وأسمائه وصفاته، وتوحيده، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنّه قال: (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه].

قال مجاهد : أعطى كلّ شيء خلقه، لم يعط الإنسان خلق البهائم، ولا البهائم خلق الإنسان، وأقوال أكثر المفسرّين تدور على هذا المعنى.

قال عطية ومقاتل : أعطى كلّ شيء صورته.

وقال الحسن وقتادة : أعطى كلّ شيء صلاحه، والمعنى : أعطاه من الخلق والتّصوير ما يصلح به لما خلق له، ثم هداه لما خلق له، وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه، هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين، فيكون نظير قوله: (قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى].

وقال الكلبي والسدّي : أعطى الرّجل المرأة، والبعير الناقة، والذكر الأنثى من جنسه، ولفظ السدي: أعطى الذكر الأنثى مثل خلقه، ثم هدى إلى الجماع ، وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء.

قال الفراء : أعطى الذكر من الناس امرأة مثله، والشاة شاة ، والثور بقرة ، ثم ألهم الذّكر كيف يأتيها.

قال أبو إسحاق : وهذا التفسير جائز ، لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ، ولم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله، فألهمه الله ذلك ، وهداه إليه. قال : والقول الأول ينتظم هذا المعنى، لأنّه إذا هداه لمصلحته، فهذا داخل في المصلحة.

قلت : أرباب هذا القول هضموا الآية معناها، فإنّ معناها أجلّ وأعظم ممّا ذكروه ، وقوله : أعطى كلّ شيء ، يأبى هذا التفسير ، فإنّ حمل كلّ شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع، لا وجه له، وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن. ومَن لم يتزوج من بني آدم ، ومن لم يسافد من الحيوان؟! وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقا له؟ وأين نظير هذا في القرآن؟ وهو سبحانه لمّا أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه، ذكره بأدلّ عبارة عليه وأوضحها فقال (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥)) [النجم].

فحمل قوله: أعطى كلّ شيء خلقه ، على هذا المعنى، غير صحيح، فتأمّله.

وفي الآية قول آخر، قاله الضحاك، قال: أعطى كلّ شيء خلقه: أعطى اليد البطش والرِجْل المشي واللسان النطق والعين البصر والأذن السمع ، ومعنى هذا القول : أعطى كل عضو من الأعضاء ما خلق له، والخلق على هذا بمعنى المفعول ، أي : أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له، فإنّ هذه المعاني كلّها مخلوقة لله، أودعها الأعضاء، وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه، لكن معنى الآية أعمّ.

والقول هو الأوّل، وأنّه سبحانه أعطى كل شيء خلقه المختص به، ثم هداه لما خلق له، ولا خالق سواه سبحانه، ولا هادي غيره.

فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته، فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون، ولهذا لمّا علم فرعون أنّ هذه حجة قاطعة ، لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، عدل إلى سؤال فاسد عن وارد فقال: (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)) [طه] أي : فما للقرون الأولى ، لم تقرّ بهذا الربّ، ولم تعبده بل عبدت الأوثان؟ والمعنى : لو كان ما تقوله حقا، لم يّخْفَ على القرون الأولى، ولم يهملوه ، فاحتجّ عليه بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية ربّ العالمين ، فعارضه عدوّ الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين، وهذا شأن كلّ مبطل ، ولهذا صار هذا ميزانا في ورثته ، يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال الزنادقة والملاحدة وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة ومبتدعة الأمّة وأهل الضلال منهم، فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي (٥٢)) [طه] أي : أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربّي ، قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب، فيجازيهم عليه يوم القيامة، ولم يودعه في كتاب خشية النسيان والضلال، فإنّه سبحانه لا يضلّ ولا ينسى، وعلى هذا فالكتاب هاهنا كتاب الأعمال. وقال الكلبي : يعني به اللوح المحفوظ ، وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق ، والمعنى على هذا أنه سبحانه قد علم أعمالهم، وكتبها عنده قبل أن يعملوها، فيكون هذا من تمام قوله (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه] فتأمّله.

فصل

وهو سبحانه في القرآن كثيرا ما يجمع بين الخلق والهداية ، كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) [العلق] وقوله : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)) [الرحمن] وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)) [البلد]، وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)) [الإنسان]، وقوله (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ (٦٠)) [النمل] الآيات ثم قال (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (٦٣)) [النمل].

فـالخلق: إعطاء الوجود العيني الخارجي، والهدى: إعطاء الوجود العلمي الذهني، فهذا خلقه، وهذا هداه وتعليمه.


المرتبة الثانية من مراتب الهداية:

هداية الإرشاد والبيان للمكلّفين ، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التّوفيق واتّباع الحق، وإن كانت شرطا فيه ، أو جزء سبب ، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب ، بل قد يتخلّف عنه المقتضى، إمّا لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، ولهذا قال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (١٧)) [فصلت]، قال: (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] فهداهم هدى البيان والدلالة ، فلم يهتدوا ، فأضلّهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا ، بعد أن عرفوا الهدى، فأعرضوا عنه ، فأعماهم عنه، بعد أن أراهموه، وهذا شأنه سبحانه في كل مّن أنعم عليه بنعمة، فكفرها ، فإنّه يسلبه إيّاها، بعد أن كانت نصيبه وحظّه، كما قال تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ (٥٣)) [الأنفال].

وقال تعالى عن قوم فرعون: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا (١٤)) [النمل] أي : جحدوا بآياتنا بعد أن تيقّنوا صحتها.

وقال: (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)) [آل عمران] وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله حيث قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) [الشورى] ونفى عنه ملك الهداية الموجبة، وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (٥٦)) [القصص] ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : <بعثت داعيا ومبلّغا ، وليس إليّ من الهداية شيء> (١).

وبعث إبليس مزينا ومغويا، وليس إليه من الضلالة شيء، قال تعالى: (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)) [يونس]، فجمع سبحانه بين الهداء يتبين العامّة والخاصّة ، فعمّ بالدعوة حجة مشيئة وعدلا ، وخصّ بالهداية نعمة مشيئة وفضلا ، وهذه المرتبة أخصّ من التي قبلها، فإنّها هداية تخص المكلّفين، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا إلاّ بعد إقامتها عليه. قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)) [الإسراء] وقال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (١٦٥)) [النساء]، وقال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)) [الزمر] وقال: (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)) [الملك].

فإن قيل : كيف تقوم حجّته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟.

قيل : حجّته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنّهم يشاهدونه عيانا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرا وباطنا، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومَن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنّه لا يعذّبه حتى يقيم عليه حجّته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه. نعم قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه، فتأمّل هذا الموضع، واعرف قدره، والله المستعان.

فصل

المرتبة الثالثة من مراتب الهداية:

هداية التّوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل، وهذه المرتبة أخصّ من التي قبلها، وهي التي ضل جهّال القدرية بإنكارها ، وصاح عليهم سلف الأمّة وأهل السُنَّة منهم، من نواحي الأرض عصرا بعد عصر، إلى وقتنا هذا ، ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم، كما ظلموا أنفسهم بـإنكار الأسباب والقوى، وإنكار فعل العبد وقدرته، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة، فلم يهتدوا لقول هؤلاء، بل زادهم ضلالا على ضلالهم وتمسّكا بما هم عليه، وهذا شأن المبطل إذا دعا مبطلا آخر إلى ترك مذهبه، لقوله ومذهبه الباطل، كالنصرانيّ إذا دعا اليهوديّ إلى التثليث وعبادة الصليب، وأنّ المسيح إله تام غير مخلوق، إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه.

وهذه المرتبة تستلزم أمرين:

أحدهما: فعل الربّ تعالى ، وهو الهدى.

والثاني: فعل العبد، وهو الاهتداء ، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي ، والعبد المهتدي ، قال تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ (١٧)) [الكهف].

ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثّره التّام ، فإن لم يحصل فعله، لم يحصل فعل العبد، ولهذا قال تعالى: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (٣٧)) [النحل].

وهذا صريح في أنّ هذا الهدى ليس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم، ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأنّ الله سبحانه إذا أضلّ عبدا، لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته، كما قال تعالى: (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ (١٨٦)) [الأعراف]، وقال تعالى: (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)) [الأنعام]، وقال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ (٨)) [فاطر] وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)) [الجاثية] وقال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٢٧٢)) [البقرة] وقال: (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (١٣)) [السجدة] وقال: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً (٣١)) [الرعد] وقال: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ (١٢٥)) [الأنعام].

وقال أهل الجَنَّة: (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ (٤٣)) [الأعراف] ولم يريدوا أنّ بعض الهدى منه وبعضه منهم، بل الهدى كلّه منه، ولو لا هدايته لهم لما اهتدوا.

وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)) [الزمر] وقال: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)) [إبراهيم] وقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ (٣٦)) [النحل] وقال تعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)) [إبراهيم] وقال تعالى: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (٣١)) [المدثر] وقال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦)) [البقرة] وقال: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)) [المائدة].

وأمر سبحانه عباده كلّهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم ، كلّ يوم وليلة، في الصلوات الخمس، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط والهداية فيه. كما أنّ الضلال نوعان: ضلال عن الصراط، فلا يهتدي إليه، وضلال فيه. فالأوّل: ضلال عن معرفته ، والثاني: ضلال عن تفاصيله أو بعضها.

قال شيخنا: (ولمّا كان العبد في كلّ حال مفتقرا إلى هذه الهداية، في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها، وأمور هُدِيَ إلى أصلها دون تفصيلها، أو هُدِيَ إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها، في المستقبل، مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو محتاج إلى الهداية، وأمور لم يفعلها، فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات، فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله، وهي الصلاة، مرّات متعدّدة في اليوم والليلة) انتهى كلامه.

ولا يتمّ المقصود إلاّ بـالهداية إلى الطريق والهداية فيها، فإنّ العبد قد يهتدي إلى طريق قصده وتنزيله عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها وأوقات السير من غيره وزاد المسير وآفات الطريق.

ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً (٤٨)) [المائدة] قال: سبيلاً وسُنّّة، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، فـالسّبيل: الطريق ، وهي: المنهاج. والسُنَّة والشّـِرْعَة: وهي تفاصيل الطريق وحزوناته وكيفية المسير فيه وأوقات المسير.

وعلى هذا فقوله: سبيلاً وسُنّّة ، يكون السّبيل المنهاج ، والسُنّة الشّـِرْعَة. فالمقدم في الآية للمؤخر في التفسير. وفي لفظ آخر : سُنَّة وسبيلاً ، فيكون المقدم للمقدم والمؤخر للتالي.



معنى لكلّ منكم شرعة ومنهاجا بشرح الشيخ صالح الفوزان حفظه الله


الصور المرفقة
نوع الملف: png قال من ربكما يا موسى.PNG‏ (126.9 كيلوبايت, المشاهدات 857)
نوع الملف: png معنى لكل منكم شرعة.PNG‏ (443.4 كيلوبايت, المشاهدات 1244)
نوع الملف: png مَن هو السعيد حقا.png‏ (404.8 كيلوبايت, المشاهدات 1417)
رد مع اقتباس