عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10 Aug 2013, 12:52 PM
حسن بوقليل
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي إتباع رمضان بستة من شوال / للمصلح ابن باديس (رحمه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم



إتباع رمضان بستة من شوال


عن أبي أيُّوب الأنصاري (رضي الله تعالى عنه): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ؛ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رواه مسلم وأصحاب السُّنن وغيرهم، وجاء بمعناه عن ثوبان وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر.

***

المفردات:
- تقول العرب: اتبع الفرس لجامها، أي ألحقه بها في العطاء. يضرب مثلاً في الأمر باستكمال المعروف واستتمامه. ويصدق هذا ولو كان بين العطاء الأوَّل والعطاء الثَّاني مهلةٌ، وكذلك جاء قوله تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي: ألحقنا بعض القرون ببعض في الهلاك النَّاشيء عن تكذيبهم، مع أنَّ بين كلِّ قرنٍ وقرنٍ مدَّةً طويلةً.
فالإتباع هو الإلحاق لشيءٍ بشيءٍ في أمرٍ؛ سواءً أكان عن اتِّصالٍ أو عن انفصالٍ. - الدهر: أصل معناه: مدَّة الدُّنيا، ويطلق على أمدٍ من الزَّمان قلَّ أو كثر. والمراد به هنا السَّنة كما جاء مصرَّحًا به في بعض روايات الحديث.

التراكيب:
أفادت ثَمَّ أنَّ الإتباع متأخِّرٌ عن الصَّوم، وإن كان قد جاء من طريق غير أبي أيُّوب العطف بالواو.
والضَّمير في "كَانَ" عائدٌ على عمل المفهوم من الكلام السَّابق، أي كان عمله، وهو صومه شهرًا وستَّة أيَّامٍ.

المعنى:
من صام رمضان، وصام بعده ستَّة أيَّامٍ من شوَّالٍ كان ذلك من عمله كصيام الدَّهر؛ لأنَّ الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشر أشهُرٍ، وستَّة أيَّامٍ بعده بشهرين، فذلك تمام السَّنة.
وجاء هذا التَّفسير عند النَّسائي من طريق ثوبان مرفوعًا.

تطبيق:
قد علمتَ أنَّ الإتباع يصدق بالإلحاق متَّصلاً أو منفصلاً، والفصل هنا واجبٌ بيوم الفطر، للعلم بحُرمة صومه، فمن فصل به فقط فهو مُتْبِعٌ، ومن فصل بأكثر منه فهو مُتبِعٌ، ومقتضى الإطلاق في لفظة "سِتًّا" أنَّه لا فرق في حصول الفضل بين أن تكون متواليةً أو متفرِّقةً، وما تقدَّم في فصل المعنى من حديث ثوبان يؤيِّد هذا الإطلاق؛ لأنَّ المقصود تحصيل ستَّة أيَّامٍ لتكون بمقتضى جزاء الحسنة بعشرٍ ستِّين يومًا، وهذا حاصلٌ عند تفرُّقها وعند اجتماعها.

الأحكام:
- ذهب الشَّافعية والحنابلة وغيرهم - وهو المصحَّح عند الحنفية - إلى استحباب صوم هذه الأيَّام، محتجِّين بهذا الحديث الصَّحيح الصَّريح.
- وأمَّا المالكيَّة فقد قال يحيى بن يحيى (راوي "الموطأ"): "سمعت مالكًا يقول في صيام ستَّة أيَّامٍ بعد الفطر من رمضان أنَّه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السَّلف، وأنَّ أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصةً عند أهل العلم ورأوهم يعملون بذلك" اهـ
والَّذي يظهر من عبارات مالكٍ أنَّ المكروه هو صوم ستَّةٍ أيَّامٍ متواليةً بيوم الفطر، كما يفهم من قوله: "في صيام ستَّةٍ أيَّامٍ بعد الفطر"، ومن قوله: "وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء"، وإنَّما يخشى هذا الإلحاق إذا كانت متواليةً ومتَّصلةً بيوم الفطر، فالكراهة إذًا عنده منصبَّةٌ على صومها بهذه الصِّفة من التَّوالي والاتِّصال، لا على أصل صومها، وهذا هو التَّحقيق في مذهبه.

فقه مالك واحتياطه:
انبنى فقه مالكٍ واحتياطه على أصلين:
الأصل الأول: أنَّ العبادة المقدَّرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهو أصلٌ عامٌّ في جميع العبادات.
وفي خصوص الصِّيام قد ثبت نهيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتقدَّم شهر رمضان بصيام يومٍ أو يومين، وظاهرٌ أنَّ وجه هذا النَّهي هو خوفُ أن يعدَّ ذلك من رمضان، فحمى الشَّارعُ بهذا النَّهي العبادة من الزِّيادة في أوَّلها.
فبنى مالك - بسعة علمه وبُعد نظره - على ذلك حمايتها من الزِّيادة في آخرها، فكره صوم تلك الأيَّام متواليةً متَّصلةً بيوم الفطر مخافة - كما قال - "أن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء"، فكان احتياطه في الأخير
مطابقًا لاحتياط النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأوَّل، وذلك كلُّه لأجل المحافظة على بقاء العبادة المقدَّرة على حالها غير مختلطةٍ بغيرها.
وقد جاء نظير هذا الاحتياط في الصَّلاة؛ فقد روى أبو داود في "سننه" أنَّ رجلاً دخل إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلَّى الفرض وقام ليصلِّي ركعتين، فقال له عمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه): اجلِس حتَّى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا. فقال له (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام): "أَصَابَ اللهُ بِكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ!" يعني أنَّ الَّذين كانوا قبلنا وصلوا النَّوافل بالفرائض، فأدَّى ذلك إلى اعتقاد جهَّالهم وجوبَ الجميع، فأدَّى ذلك إلى تغيير شرع الله وهو سبب الهلاك.
لا يقال إنَّ مقدار العبادة معلومٌ من الدِّين بالضَّرورة، فكيف يظنُّ أنَّه قد يعتقد الجميع من الأصل والزِّيادة عبادةً واحدةً؛ لأنَّنا نقول إذا دام وصل النَّافلة بالفريضة، وطال العهد، وخلفت الخلوف، أدَّى ذلك أهل الجهالة إلى ذلك الاعتقاد.
والاحتياط للعبادة يقتضي قطع ذلك الاعتقاد من أصله بالنَّهي عمَّا يؤدِّي إليه، وهو من سدِّ الذَّرائع الَّذي هو أحد أصول مالكٍ في مذهبه.
ومع هذا فقد نقل الإمام القرافي عن الإمام عبد العظيم المنذري أنَّ الَّذي خشي منه مالك (رحمه الله تعالى) قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والقوانين(1)، وشعائر رمضان إلى آخر السِّتَّة أيَّام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد. اهـ
فلله مالكٌ ما أوسع علمه! وما أدقَّ نظره! وما أكثر اتِّباعه! فرحمة الله تعالى عليه، وعلى أئمَّة الهدى أجمعين.
الأصل الثاني: أنَّ ما ورد من العبادة مقيَّدًا بقَيدٍ يلتزم قيده، وما ورد منها مطلقًا يلتزم إطلاقه، فالآتي بالعبادة المقيَّدة دون قيدها مخالفٌ لأمر الشَّرع ووضعه.
والآتي بالعبادة المطلقة ملتزمًا فيه ما جعله بالتزامه كالقيد مخالفٌ كذلك لأمر الشَّرع ووضعه، وهو أصلٌ في جميع العبادات.
ومثال ما ورد من العبادة مقيَّدًا: التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير ثلاثًا وثلاثين مرَّةً والختم بـ: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
فقيِّدت هذه العبادة المحدَّدة بإيقاعها دبُرَ كلِّ صلاةٍ، فالإتيان بها في غير دبُر الصَّلوات مخالفةٌ للوضع الشَّرعي.
ومثال ما ورد مطلَقًا(1): "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائةَ مرَّةٍ"(2)، و"سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرَّةً"، فيلتزمها في وقتٍ معيَّنٍ من النَّهار، فيخرج عن مقتضى الإطلاق في لفظ يوم من نصِّ الحديث فيكون مخالفًا للوضع الشَّرعي.
ولفظ الحديث الوارد في هذه الأيَّام جاء مطلقًا في الاتِّباع صادقًا بالاتِّصال والانفصال، وفي لفظ ستَّة صادقًا بتواليها وتفرُّقها، فالتزام اتِّصالها وتواليها تقييدٌ لما أطلقه الشَّرع وتزيُّدٌ عليه.

اقتداء وتحذير:
هذان الأصلان اللَّذان قرَّرنا بهما فقه مالكٍ، هما أصلان مجمعٌ عليهما، كثيرةٌ في الشَّريعة المطهَّرة أدلَّتُهما، والفروع الَّتي تنبني عليهما، فلنا في مالكٍ وغيره من أئمَّة الهدى القدوة الحسنة في التَّمسُّك بهما، فنحتاط لعبادتنا حتَّى لا نخلط بين فرضها ونفلها، ونتقبَّل ما جاء من العبادات مقيَّدًا أو محدَّدًا بقيده وحده، ونتقبَّل ما جاء منها مطلقًا على إطلاقه، فلا نلتزم فيه ما يخرجه عن الإطلاق.
ولنحذر كلَّ الحذر من الإخلال بقيود الشَّارع أو التَّقييد لمطلقاته، ففي ذلك استظهارٌ عليه، وقلَّة أدَبٍ معه، وتبديلٌ لوضعه، واختيارٌ عليه، وإنَّما الخير لله ولرسوله، لا لأحدٍ من النَّاس، وأنَّ الغالب على النَّاس أنَّهم لا يتعمَّدون الإخلال بالقيود، وإنَّما يتعمَّدون التَّقييد للمطلَقات وأنواع الالتزامات، مع أنَّهما في المخالفة سواءٌ، فلنحذر من الوقوع في مثل هذا على الخصوص.

امتثال:
نصوم هذه السِّتَّة كما رغَّبنا نبيُّنا طمعًا في فضل ربِّنا، غير ملتزمين وصلها ولا موالاتها، والله يلهمنا والمسلمين أجمعين أنواع المبرَّات، وإقامتها بمنِّه وكرمه. آمين.


انتهى النقل من "
مجالس التَّذكير من حديث البشير النَّذير" للإمام المصلح السلفي عبد الحميد بن باديس (رحمه الله) (ص 52).

رد مع اقتباس