عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 06 May 2010, 05:58 AM
محمد الهاشمي محمد الهاشمي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
المشاركات: 101
افتراضي (الإخلاص بركة العلم وسر التوفيق) - للشيخ: [محمد علي فركوس]

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله سبحانه وتعالى:

﴿قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾[يوسف: 108]

﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾[النحل: 125].



الإخلاص بركة العلم وسر التوفيق

للشيخ محمد علي فركوس - حفظه المولى -



فضيلة العلم الشرعي والحضُّ على طلبه:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فإنّ اكتساب مادة كلّ علمٍ ينبغي أن تكون وََفق أُسًسٍ يبني عليها طالبُ العلم مسيرتَه التحصيلية، والعلم الشرعيُّ لا يخرج عن هذا المعنى؛ لأنّ الأصل في الإنسان الجهل، لقوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78]، لكنه مأمور بطلبه في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاإِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾ [محمّد: 19]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 98]، وكلّ ما أمر اللهُ عزّ وجلّ به فهو عبادة، فيكون طلب العلم في طليعة العبادات وأجلِّها، بل جعله الله قسيمًا للجهاد في سبيل الله(١)، وهو منه قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، ذلك لأنّ العلمَ الشرعيَّ سببُ الهداية، وقائدٌ إلى تقوى الله، وسبيلُ النجاة والوقاية من النار، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، ووقاية النفس والأهل من النار إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، ولا يتمُّ ذلك إلاّ بالعلم الشرعي الصحيح حتى يتمكّن من أدائه والقيام به على الوجه المطلوب شرعًا، لذلك كان من حَظِيَ برزقِ اللهِ له للعلم الشرعي فقد فتح الله عليه به، وأراد اللهُ به خيرًا، ومَنْ مُنِعَ فقد حُرِم الخير(٢)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(٣).

ولما كان العلم الشرعي عبادةً فإنه ينبغي طلبه ضمن هيئةٍ راسخةٍ في نفس الطالب ليُؤْثِرَ بها الحقّ والفضيلة، ويرغب في رفع الجهل عنه وإزالته عن غيره، وحبّ المعروف وترسيخه، تلك الهيئةُ المطلوبةُ هي النيةُ الخالصة الصادقة التي تتكيّف بها جميع الأعمال صحّةً وفسادًا تبعًا لها إذ «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٤)، والنية في الطلب يجب فيها الإخلاص لله سبحانه فهو شرطُ العبادة وركنُ التوحيد، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2].


قاعدة الإخلاص قوام المطالب العلمية:

هذا، وقاعدةُ الإخلاص في الطلب إنما تتأتى بنية التقرّب إلى الله تعالى بكلّ ما يستلزم محبّتَه ورضاه، من العلمِ به سبحانه وبصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنـزيهه من العيوب والنقائص، وبمعرفة ما يجب على المكلّف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، ومعرفة حلاله من حرامه، ساعيًا في ذلك بعزمٍ في رفع الجهل عن نفسه، وحفظ شريعة الله تعالى بالتعلّم وضبط حفظه في الصدر وتقييده بالكتابة، والعمل بما حفظه وضبطه امتثالاً لأوامر الشرع والوقوف عند حدوده؛ لأنّ ثمرة العلم العمل، وبقاءُ العلم ببقاء العمل، بل هو من لوازم الإخلاص وسببُ نمائه وزيادتِه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ العَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ»(٥)، ذلك لأنّ العمل هو شُكْرُ الله على نعمةِ العلم، وقد قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]، ومن عمل بما عَلِمَ ورَّثه اللهُ عِلمَ ما لم يعلم، ومن لم يعمل بعلمه لم يكن صادقًا في طلبه وعُوقب بنسيان العلم وضياع معارِفِه وحرمانه من الخير، واستحقّ المقتَ والآفات، قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ [المائدة: 13]، ويتبيّن من الآية أنّ ترك العمل بالعلم يورِّثُ فشلاً في الطلب ومَحْقًا للبركة ونسيانًا ذِهنيًّا وعمليًّا بترك النهوض به والقيام بلوازمه، قال الثوري: «العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ»(٦)، من أجل ذلك كان الصدقُ خُلقًا مقترنًا بالإخلاص يتحلّى به الطالب قبل العلم ولا يتحقّق الارتقاء في مدارج الكمال والعلم إلاّ لصادق، قال الأوزاعي رحمه الله: «تَعَلَّمِ الصِّدْقَ قَبْلَ أَنْ تَتَعَلَّمَ العِلْمَ»، وقال وكيع رحمه الله: «هَذِهِ الصَّنْعَةُ لاَ يَرْتَفِعُ فِيهَا إِلاَّ صَادِقٌ»(٧).

هذا، وكما أنّ من الإخلاص أن ينوي رفعَ الجهلِ عن نفسه أن يستتبِعَه -أيضًا- بنيةِ رفعِ الجهل عن غيره، وذلك بالدعوة إلى الله تعالى بتبليغ العلم للناس وبيانِ ذكر الله وما نزل من الحقّ، ونشرِه ليحصل به النفع والهدى مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، ويعمل على حماية جناب التوحيد، وصيانة كمال الدين مما قد يُقحم فيه ما ليس منه، والدفاع عن شريعة الله التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وحِفظها من زيادة المبتدعين، واستدراكات المستدركين.


اختلاف النيات في تحصيل العلم:

فمن صاحبته هذه النية الخالصة الصادقة بالعمل الصالح كان على هُدًى وبصيرة، وخير ونعمة وتقى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمّد: 17]، وفتح الله له أبواب الخير، وأتته الدنيا راغمة، وحصل له ثواب الآخرة، لسلامة قصده وصلاح نيّته، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(٨)، وقال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ رحمه الله: «مَنِ ابْتَغَى شَيْئًا مِنَ العِلْمِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ آتَاهُ اللهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ»(٩).

أمّا مَن أُصيبت نيَّتُه في صميم صِدْقِ طَلَبِ العلم بِكَدَرٍ وَزَغَلٍ، وجعل تحصيلَه له مطيةً لأغراض وأعراض: مِن طلب الدنيا والمالِ والرئاسةِ والظهورِ والتفوّقِ والسمعةِ والرياء والمحمدة وغيرها من المقاصد السيّئة فإنّ إرادته تشوبها شوائبُ الفساد والبطلان، وتزول من جرائها بركة العلم وترتفع خيريته، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن تَعلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى، لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ»(١٠) يعني: ريحها. وفي حديث آخر: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ»(١١)، وقد ينال بعلمه ما يبتغيه بنيته الفاسدة في إحراز دنياه، ولا يحصل منها إلاّ ما كُتب له، لكنّ جزاءَه الفقرُ والتشتيتُ والغفلةُ والضياع في الدنيا، وكان عاقبة أمره خُسرًا، قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15]، فمن جرَّد قصده إلى الدنيا يعطه الله تعالى بعمله ثواب الدنيا إذا شاء سبحانه كما جاء تقييد الآية في قوله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ [الإسراء: 18]، وليس له أن يطلب بالعلم الشرعي أمرًا غير ما شرع له؛ لأنه عبادة، ومن ابتغى بالعبادة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وجزاء من ناقضها بطلان العمل، وقد يعامل بنقيض مقصوده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قَدْ قُدِّرَ لَهُ»(١٢)، قال الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمه الله-: «مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ هَذَا العِلْمِ فَأَرَادَ بِهِ مَا عِنْدَ اللهِ يُدْرِكْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ حَظُّهُ مِنْهُ»(١٣)، ذلك لأنه استعمل العبادة فيما لم تشرع لأجله، واتخذها مطية لتحصيل غرضه، فكان ظلمًا لله في حقِّه على عباده، وتلاعبًا بالشريعة بوضع الأمور في غير مواضعها، فاستوجب أن يكون أوّلَ الناس يُقضى يوم القيامة: ثلاثة أجهدوا أنفسهم في الطاعات والعبادات ولم تنفعهم طاعتهم وعبادتهم وإنما صارت عذابًا، لأنهم لم يبتغوا بها وجه الله تعالى، فمن هؤلاء: «وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ القُرآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ: قَارِئٌ، فَقَدِ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»(١٤).

وصنف آخر تعيَّنت دوافعُ طلبه في غير المقاصد الدنيوية، وإنما قَصَرَ نِيَّةَ الطلب على تحصيل العلم في ذاته، والظفرِ بالحكمة مجرّدةً عن العمل، وهذا -أيضًا- يشوب صفاء الإخلاص بِكَدَرٍ؛ لأنه لم يخلص لله تعالى من جهة، وجعل طلبَ العلم وسيلةً لعبادة لم تُقِرَّها الشريعة، إذ لا يخفى أنّ العلم المطلوبَ الذي نحتاج إليه وأخبرنا الله تعالى به، وعلّمنا إياه، هو: ما كان وسيلةً إلى العمل به، والعملُ بما يقتضيه العلم من الإيمان به والإقبال على الطاعات والقيام بها بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغيرها من الأعمال، فإنّ ذلك العلم مطلوبٌ لا في ذاته ولكن لثمرته وهي العملُ به، فمن عَلِمَ ولم يَعْمَلْ فقد شابَه اليهود المغضوبَ عليهم، ومن عَمِلَ بلا علم فقد شابَه النصارى الضالين، ومن جمع بين العلم النافع والعمل الصالح واتصف بهما ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
«ونظير هذا ما يُذكر أنّ بعض الناس بَلَغَه أنه: «مَنْ أَخْلَصَ للهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ»(١٥) فأخلص في ظنِّه أربعين صباحًا لينال الحكمة فلم ينلها، فشكى ذلك بعضَ حكماء الدِّين فقال: إنك لم تخلصْ لله سبحانه وإنما أخلصتَ للحكمة، يعني أنّ الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادةُ وجهه، فإذا حصل ذلك حَصَلت الحكمة تبعًا، فإذا كانت الحكمةُ هي المقصودةُ ابتداءً لم يقع الإخلاص لله سبحانه وإنما وقع ما يظنّ أنه إخلاصٌ لله تعالى، وكذلك قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهَ»(١٦)، فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعًا فإنه يكون مقصوده الرفعة وذلك ينافي التواضع»(١٧).

هذا، ومن أقوال بعض السلف في باب العمل بالعلم وحسن النية فيه قول معاذ بن جبل رضي الله عنه: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللهُ بِالعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا»(١٨)، وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لاَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ»(١٩)، وقال أيضًا: «مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي أَنْ يُقَالَ لِي: مَا عَلِمْتَ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي مَاذَا عَمِلْتَ؟»(٢٠).

ومع ذلك فإنّ مبتغي العلمِ المحبَّ له الطامعَ في تحصيله قد يَرُدُّهُ العلم إلى النية الصالحة فيفتح الله تعالى عليه باب العمل والخير والنفع، فقد جاء عن مجاهدِ بنِ جَبْرٍ -رحمه الله- قوله: «طَلَبْنَا العِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَبِيرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ بَعْدُ فِيهِ نَيَّةً»(٢١)، وقال مَعْمَر بن راشد -رحمه الله-: «كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَيَأْبَى عَلَيْهِ العِلْمُ حَتَّى يَكُونَ للهِ»(٢٢).

وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه تمثيل الانتفاع بالهدى والعلم الذي جاء عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ممَّن لا ينتفع به بما يقرب شَبَهًا بأصحاب النِّيات على اختلاف البواعث والدوافع في تحصيل العلم الشرعي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ(٢٣)لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»(٢٤).

قال ابن حجر: «قال القرطبي وغيرُه: ضَرَب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العامّ الذي يأتي الناسَ في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أنّ الغيث يحيي البلدَ الميت فكذا علومُ الدين تُحيي القلب الميت، ثمّ شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينـزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلِّمُ فهو بمنـزلة الأرض الطيِّبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرَها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقّه فيما جمع لكنه أدّاه لغيره، فهو بِمَنْزلة الأرض التي يستقرّ فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءًَا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»(٢٥)، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو ِبمَنْزلة الأرض السَّبْخَة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها، وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها»(٢٦).


رد مع اقتباس