عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 30 Dec 2014, 11:19 PM
سليم حموني سليم حموني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2014
المشاركات: 67
افتراضي هل التَّفسير العلمي للزَّلازِل يُنافي التَّفسير الشَّرعي؟

هل التَّفسير العلمي للزَّلازِل يُنافي التَّفسير الشَّرعي؟


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعدُ:

فممَّا يَحسُنُ معرفتُه أنَّ هذا السُّؤالَ مُندَرِجٌ تحت أصلٍ كبيرٍ أول ما اشتهر عند فلاسفة اليونان قديما، ولم يكن قطُّ بارزًا ظاهرًا مستفحِلًا كما هو في العصر الحديث بعد الثَّورة الصِّناعيَّة العلميَّة الهائلة الَّتي غيَّرَتْ وجهَ العالَم، وهو:
هل التَّفسير العلمي (معرفة الأسباب والمُؤثِّرات) يتناقض مع معرفةِ التَّفسير الشَّرعي (الحكمة والغاية من وقوع حادثٍ مَا)؟

وقد وقعَتْ قديمًا مسألةٌ شبيهةٌ بها ولا تزال آثارُها باقيةً، بل هي أساسها ومُستَنَدُها وهي: افتراض التَّنافر والتَّناقض بين الشَّرع والعقل.

وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المطر والرَّعد والزَّلازِل ، على قولِ أهلِ الشَّرع وعلى قول الفلاسفة.
فأجاب رحمه الله:
«الحمد لله ربِّ العالمين...
وأما الرعد والبرق ففي الحديث المرفوع في الترمذي وغيره، أنه سئل [صلى الله عليه وسلم] عن الرعد قال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله».
وفي «مكارم الأخلاق» للخرائطي عن علي أنه سئل عن الرعد فقال: «ملك» وسئل عن البرق فقال: «مخاريق بأيدي الملائكة»، وفي رواية عنه «مخاريق من حديد بيده»، وروي في ذلك آثار.
قد روي عن بعض السلف أقوال لا تخالف ذلك؛ كقول من يقول: إنه اصطكاك أجرام السحاب، بسبب انضغاط الهواء فيه؛ فإن هذا لا يناقض ذلك...
والحركة توجب الصوت، والملائكة هي التي تحرك السحاب، وتنقله من مكان إلى مكان، وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فهي عن الملائكة، وصوت الإنسان هو اصطكاك أجرامه الذي هو شفتاه، ولسانه...
...والزَّلازلُ من الآيات الَّتي يُخَوِّفُ اللهُ بها عبادَه؛ كما يُخوِّفُهم بالكسوفِ وغيرِه من الآيات، والحوادثُ لها أسبابٌ وحِكَمٌ، فكونُها آيةً يُخوِّفُ اللهُ بها عبادَه هي من حكمةِ ذلك.
وأمَّا أسبابُه: فمن أسبابِه انضِغاطُ البُخَار في جوفِ الأرض، كما يَنضَغِطُ الرِّيحُ والماءُ في المكان الضَّيِّقِ، فإذا انضغَطَ طَلبَ مَخرَجًا، فيَشُقُّ ويُزَلزِلُ ما قَرُبَ منه من الأرضِ.
وأمَّا قولُ بعضِ النَّاسِ: إنَّ الثَّورَ يُحرِّكُ رأسَه فيحرِّكُ الأرضَ، فهذا جهلٌ وإن نُقِلَ عن بعضِ النَّاسِ، وبطلانُه ظاهِرٌ؛ فإنَّه لو كان كذلك لكانت الأرضُ كلُّها تزلزل، وليس الأمرُ كذلك، واللهُ أعلم» اهـ.«مجموع الفتاوى» (24/262 ـ 264).

فانظر رحمك الله إلى كلامه ما أقواه وأمتنَه، على اختصاره ووجازته.


فأمَّا الشَّاهِدُ من جوابِهِ ـ وإن كان منه إشارةً ـ فقولُه أنَّ للحوادث أسبابًا وحِكَمًا:
* فأمَّا الأسبابُ فمُدرَكَة في الغالب وهي خاضعةٌ للتَّجرِبة والقياس، وهي الَّتي يُسمِّيها أهلُ الجَدَل والفلسفةِ قديمًا: العلَّة الفاعليَّة، أي ما بِسَبَبِه كان الشَّيءُ.
* وأمَّا الحِكَمُ والغايات: فعليها مدارُ الحرب بين أهل الشَّرعِ المؤمنين بالغيب، والملاحدةِ من الطَّبيعيِّين والفلاسفة، قديمًا وحديثًا، وهي الَّتي تُسمَّى في اصطلاح مَنْ تقدَّم منهم: العلَّة الغائيَّة، أي ما لأَجلِه وُجِدَ أو فُعِلَ الشَّيءُ.
وهم وإن كانوا زعموا مناقضة الشرع للواقع والعقل في العلَّتين معًا، إلا أن حملاتهم على هذا الثاني ـ أي: العلة الغائية ـ كانت أعظم وأقوى اشتباهًا وأكثر تلبيسًا وإضلالا.
قال ابن تيمية رحمه الله في «تائيَّته»:
وأصلُ ضلالِ الخلق من كلِِّ فرقة * * * هو الخوضُ في فعلِ الإله بعلَّة

ولا مَطْمَعَ لملحدٍ أو أيٍّ مخلوقٍ ـ أيَّا كان مذهبُه ومشربُه ـ إلى الاهتداء إليها إلَّا عن طريق الوحي المعصوم.
وأمَّا تفسير شيخ الإسلام للسَّبب الطَّبيعي للزَّلازل، فهو أَمرٌ مُقارِبٌ جدًّا لما عليه أهلُ الاختصاص اليوم (السِّيسمولوجيُّون أو خبراء الزَّلازل)!، مع امتيازه بذكرِ ما ينفعُ المؤمنَ من بعض الحِكَمِ الشَّرعيَّة من وقوعِها وهي التَّخويف.


وقد سئل كذلك ابن تيمية عن مسائل متعلقة بالعرش وما يذكره الملاحدة والفلاسفة حوله...
فأجاب بجواب وافٍ شافٍ يُعرَف بـ«الرسالة العرشيَّة»، حقَّق المسألة من خلال بيان هذه القاعدة العظيمة، وهي: درء التَّعارضِ بين ما أثبتَه الشَّرعُ وبين ما أثبته العقلُ أو الحساب أو الحسُّ؛ فقال رحمه الله:
«...وتحقيق الأمر فيه، وبيان أنَّ ما عُلِمَ بالحساب علمًا صحيحًا لا ينافي ما جاء به السَّمع، وأنَّ العلومَ السَّمعيَّةَ الصَّحيحةَ لا تنافي معقولاً صحيحًا؛ إذ قد بسطنا الكلامَ على هذا وأمثالِه في غيرِ هذا الموضع؛ فإنَّ ذلك يُحتَاجُ إليه في هذا ونظائرِه (يريد مسألة العرش هل هو كروي الشَّكل، وكذا الأرض...) ممَّا قد أشكل على كثيرٍ من النَّاس، حيث يرون ما يقال أنَّه معلومٌ بالعقل مُخالِفًا لما يُقالُ أنَّه معلومٌ بالسَّمع، وأوجب ذلك أنْ كذَّبَتْ كلُّ طائفةٍ بما لم تُحِطْ بعلمه...
وأمَّا المتفلسفةُ وأتباعُهم فغايتهم أن يستدِلُّوا بما شاهدوه من الحسِّيَّات، ولا يعلمون ما وراءَ ذلك [أي: من الحِكَمِ والغايات]، مثل أن يعلموا أنَّ البُخَارَ المتصاعِدَ ينعقِدُ سحابًا، وأنَّ السَّحابَ إذا اصْطَكَّ حدَثَ عنه صوتٌ به، ونحو وذلك.
كان علمُهم هذا كعلمهم بأنَّ المنيَّ يصير في الرَّحم (جنينًا)، لكن ما المُوجِبُ للمنيِّ المتشابِهِ الأجزاءِ أن يُخلَقَ منه هذه الأعضاءُ المختلِفَةُ، والمنافعُ المختلفةُ، على هذا التَّرتيب المُحكَمِ المُتقَنِ الَّذي فيه من الحكمة والرَّحمةِ ما بَهَرَ الألبابَ؟

وكذلك ما المُوجِبُ لأنْ يكونَ هذا الهواءُ أو البخارُ ينعقِدُ سحابًا مُقدَّرًا بقدرٍ مخصوصٍ، في وقتٍ مخصوصٍ، على مكانٍ يَختَصُّ به، ويَنزِلُ على قومٍ عند حاجتهم إليه، فيَسقِيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا، ولا ينقص فيعوزوا.
وما المُوجِبُ لأن يُساقَ إلى الأرض الجُرُزِ الَّتي لا تُمطِر، أو تمطر مطرًا لا يغنيها؛ كأرضِ مصر؛ إذ كان المطرُ القليلُ لا يكفيها والكثيرُ يهدِمُ أبنِيَتَها، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾؟
وكذلك السَّحابُ المُتحرِّكُ، وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون قسرية، وهي تابعة للقاسر، أو طبيعية وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه، فيطلب عوده إليه، أو إرادية وهي الأصل.
فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى التي هي ﴿فالمدبرات أمرا﴾، ﴿فالمقسمات أمرا﴾، وغير ذلك مما أخبر الله تعالى به عن الملائكة، وفي المعقول ما يصدق ذلك...» اهـ من «الرسالة العرشية» (ص12 ـ 13) ط المنيرية.


وقال ابن القيم بعد كلام له حول الأسباب الطبيعية الكونية المقتضية لحدوث الكسوف، مبينا فيه أَنْ لا تَعارض بين العلوم التي دل الحس والحساب وضرورة العقل على صحتها وبين ما جاء به الشرع:
«فإن قلتَ: فقد أطلتَ في شأن الكسوف وأسبابِه وجئتَ بما شَفَيْتَ به من البيان الَّذي لم يَشهَدْ له الشَّرعُ بالصِّحَّة ولم يشهدْ له بالبطلانِ؛ بل جاء الشَّرعُ بما هو أهمُّ منه وأَجَلُّ فائدةً من الأمر عند الكسوفيِّين بما يكون سببًا لصلاح الأمَّة في معاشها ومعادِها.
وأمَّا أسبابُ الكسوفِ وحسابُه والنَّظرُ في ذلك فإنَّه من العلم الَّذي لا يضُرُّ الجهلُ به، ولا ينفعُ نفعَ العلمِ بما جاءَتْ به الرُّسُل وإن كان لا يخلو عن منفعة ولذة.
وهذا هو الفرق بين العلوم التي جاءت بها الرسل وبين علوم هؤلاء.
فكيف تصنَعُ بالحديث الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لا يَنْخَسِفَانِ لمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلى ذِكْرِ الله والصَّلَاةِ»، فكيف يُلائِمُ هذا ما قاله هؤلاء في الكسوف؟
[الجواب]
قيل: وأيُّ مناقضةٍ بينهما؟ وليس فيه إلَّا نفيُ تأثيرِ الكسوف في الموتِ والحياةِ على أحدِ القَولَيْن، أو نفيُ تأثيرِ النَّيِّرَيْن بموتِ أحدٍ أو حياتِه على القول الآخر، وليس فيه تعرُّضٌ لإبطال حسابِ الكسوف ولا الإخبارُ بأنَّه من الغَيْبِ الَّذي لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ.
وأَمْرُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم عنده بما أمَرَ به من العتاقة والصَّلاةِ والدُّعاءِ والصَّدقة كأَمْرِه بالصَّلَوَاتِ عند الفجرِ والغروبِ والزَّوال، مع تضمُّنِ ذلك دفعَ مُوجَبِ الكسوفِ الَّذي جَعَلَه اللهُ سبحانه سببًا له.
فشرَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه و سلَّم للأمَّةِ عندَ انعقادِ هذا السَّبَبِ ما هو أَنْفَعُ لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلمِ الهيئةِ وشأنِ الكسوف وأسبابِه» «مفتاح دار السعادة» (3/1419 ـ 1420)


ولابن القيم كلمة أخرى عظيمة حول القضية وما وقع في الأمة من خصومة بين الفلاسفة الملاحدة وأهل الشرع المنتسبين إلى علم الكلام في هذا الباب؛ حيث ذكر فيه الطائفتين؛ الملحدة التي وقفت عند ما انتهى إليه علمها بالأسباب والمسببات ونفت ما وراء ذلك، اغترارًا وعُجبًا بعقولهم بغير حقِّ حتى تجاوزوا ما جاءت به الرسل.
ثم تحدث عمن اغتر بهم، ووصف أحوالهم كأنه يحلل نفسياتهم؟؟ وما أشد انطباق تحليله العجيب على من زعموا أنفسهم من النخبة المتثقفة العلمانية المنهزمة أمام الكفار وعلومهم.
والطائفة الثانية التي كانت فتنة للأولى وسببًا في استطالتها على الإسلام وأهلِه، وتماديها في الكفر والجهل، وهم أهل الكلام الذين قابلوا أولئك برد كل ما قالوه من حق وباطل، وظنوا أن تصديق الرسل وتثبيت دلائل نبوتهم لا يتم إلا برد ما مع أولئك من علوم مادية شهد العقل والحساب والحس بصحتها، فتحدث عن عظيم جنايتهم على الإسلام وأهله بما يكفي العاقل وينبه الغافل.
فقال رحمه الله تعالى:

«ولقد جنى على ما جاءت به الرسل طائفتان، هلك بسببهما من شاء الله، ونجا من شَرَكِهما من سبقت له العنايةُ من الله:
1ـ إحدى الطائفتين [وهم الفلاسفة] وقفت مع ما شاهَدَتْه وعَلِمَتْه من أمور هذه الأسباب والمُسبَّباتِ، وأحالَت الأمرَ عليها، وظنَّت أنَّه ليس بعدها شيء؛ فكفَرَت بما جاءت به الرُّسُل وجحَدَت المبدَأَ والمعادَ والتَّوحيدَ والنُّبوَّاتِ، وغَرَّها ما انتهى إليه علومها ووقفَتْ عنده أقدامُها من العلم بظاهرٍ من المخلوقات وأحوالِها.
وجاء ناسٌ جُهَّالٌ رأَوْهم قد أصابوا في بعضِها أو كثيرٍ منها، فقالوا: كلُّ ما قاله هؤلاء فهو صوابٌ؛ لما ظَهَرَ لنا من صوابِهم.
وانضاف إلى ذلك أنَّ أولئك لمَّا وقفوا على الصَّواب فيما أدَّتهم إليه أفكارُهم من الرِّياضيَّاتِ وبعضِ الطَّبيعيَّات وَثِقُوا بعقولِهم وفَرِحُوا بما عندهم من العلمِ، وظنُّوا أنَّ سائرَ ما أَحكَمَتْه أفكارُهم من العلم بالله وشأنِه وعظمَتِه هو كما أوقَعَهم عليه فكرُهم، وحكمَه حكمُ ما شَهِدَ به الحسُّ من الطبيعيَّاتِ والرِّياضيَّات؛ فتفاقم الشَّرُّ وعظُمَتِ المصيبةُ، وجُحِدَ اللهُ وصفاتُه وخلقُه للعالَم وإعادتُه له، وجُحِدَ كلامُه ورسلُه ودينُه....
...والمقصود أنَّ هؤلاء لمَّا أوقَفَتْهم أفكارُهم على العلم بما خفيَ على كثيرٍ من أسرار المخلوقات وطَبائِعها وأَسبابِها، ذهبوا بأفكارهم وعقولهم وتجاوزَتْ ما جاءَت به الرُّسُل وظنُّوا أنَّ إصابَتَهم في الجميع سواء...
...ولم يعلَمْ هؤلاء أنَّ الرَّجُلَ يكون إمامًا في الحسابِ وهو أَجهَلُ خلقِ الله بالطِّبِّ والهيئةِ والمنطِقِ، ويكونُ رأسًا في الطِّبِّ ويكونُ من أجهَلِ الخلقِ بالحساب والهيئةِ... وهذه علومٌ مُتقارِبَةٌ، والبُعْدُ بينها وبينَ عُلومِ الرُّسُلِ الَّتي جاءَتْ بها عن الله أَعْظَمُ من البُعدِ بين بعضِها وبعض.
فإذا كان الرَّجُلُ إمامًا في هذه العلوم ولم يعلَمْ بأيِّ شيءٍ جاءت به الرُّسُلُ ولا تَحلَّى بعلوم الإسلام فهو كالعامِّيِّ بالنِّسبَةِ إلى علومِهم، بل أبعدُ منه، وهل يَلزَمُ مِنْ معرفةِ الرَّجُلِ هيئةَ الأفلاك والطِّبَّ والهندسةَ والحسابَ أن يكون عارِفًا بالإلهيَّاتِ وأحوالِ النُّفوس البشريَّةِ وصفاتِها ومعادِها وسعادتِها وشقاوتِها؟!
...فعلومُ هؤلاء بمنزلةِ هذه العلوم (يريد بعض الصناعات والحِرَف) الَّتي هي نتائجُ الأفكارِ والتَّجارب، فما لها ولعلوم الأنبياء الَّتي يتلقَّوْنَها عن الله بوسائط الملائكة؟!.
هذا؛ وأيْنَ تَعلُّقُ الرِّياضيَّاتِ الَّتي هي نَظَرٌ في نَوعَي الكُمِّ المُتَّصِل (وهو الهندسة) والمنفصل (وهو الحساب أو ما يُعرَف بالجَبْر) والمَنطِقيَّاتِ الَّتي هي نظرٌ في المعقولات الثَّانية (أي غير البديهيَّة) ونِسبَةِ بعضِها إلى بعضٍ بالكُلِّيَّةِ والجزئيَّةِ والسَّلْبِ والإيجابِ وغير ذلك = بمعرفة ربِّ العالمين وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وأمرِه ونهيِه وما جاءت به رُسلُه وثوَابُه وعقابُه؟!...

2ـ والطَّائفة الثَّانية:
رَأَتْ مُقابَلةَ هؤلاء بردِّ كلِّ ما قَالُوه من حقٍّ وباطلٍ وظنُّوا أنَّ من ضرورةِ تصديقِ الرُّسُلِ ردَّ ما علِمَه هؤلاء بالعقلِ الضَّروري وعلِمُوا مُقدِّماتِه بالحسِّ؛ فنازعوهم فيه وتعرَّضوا لإبطالِه بمُقدِّمَاتٍ جدليَّةٍ لا تُغني من الحقِّ شيئًا [وهل بعد هذا يستريب عاقل أن مذاهب أهل الكلام عموما والأشاعرة خصوصا، مذاهب خرافية باطلة بل متخلفة يصلح أن تصنف ضمن الأساطير والخيالات البائدة؟!] وليتَهُمْ مع هذه الجنايةِ العظيمةِ لم يُضِيفُوا ذلك إلى الرُّسُل، بل زعموا أنَّ الرُّسُلَ جاؤوا بما يقولونَه، فساء ظنُّ أولئك الملاحدةُ بالرُّسل وظنُّوا أنَّهم هم أعلَمُ وأعرَفُ منهم، ومَنْ حَسُنَ ظَنُّه بالرُّسُل قال: إنَّهم لم يَخْفَ عليهم ما نقولُه، ولكن خاطبوهم بما تَحتَمِله عقولُهم من الخطاب الجمهوري النَّافع للجمهور، وأما الحقائقُ فكتموها عنهم [وعلى هذا مشى ابن رشد الحفيد].
والَّذي سلَّطَهُمْ على ذلك جَحْدُ هؤلاء لِحَقِّهم ومكابَرَتُهم إيَّاهم على ما لا تُمكِن المكابرةُ عليه ممَّا هو معلومٌ لهم بالضَّرورةِ؛ كمكابرتهم إيَّاهم:
* في كونِ الأفلاك كُرِّيَّةَ الشَّكل والأرضِ كذلك.
* وأنَّ نور القمر مُستفَادٌ من نورِ الشَّمسِ.
* وأنَّ الكسوفَ القمريَّ عبارةٌ عن انْمِحَاءِ ضوءِ القمرِ بتوسُّطِ الأرضِ بينه وبين الشَّمسِ من حيثُ إنَّه يَقتَبِسُ نورَه منها.
والأرضُ كرةٌ والسَّماءُ محيطةٌ بها من الجوانب، فإذا وقع القمرُ في ظلِّ الأرضِ انقَطَعَ عنه نورُ الشَّمس كما قدَّمَنْا.
* وكقولهم [أي إنكارهم قولَهم]: إنَّ الكسوفَ الشَّمسي معناه وقوع جِرْم القمر بين النَّاظر وبين الشَّمس عند اجتماعِهما في العقدتين على دقيقةٍ واحدةٍ.

* وكقولهم بتأثير الأسباب المحسوسةِ في مُسبَّباتِها وإثباتِ القوى والطَّبائعَ والأفعالَ والانفعالاتِ ممَّا تقومُ عليه الأدلَّةُ العقليَّةُ والبراهين اليقينيَّةُ [ونفيها من أعظم ما انبنى عليه مذهب الأشاعرة في حدوث العالم والجوهر الفرد، ومسائل الحكمة والتعليل والتحسين والتقبيح، ودلالة المعجزة على النبوة، وغير ذلك].
فيخوضُ هؤلاء معهم في إبطالِه فيُغرِيهم ذلك بكُفرِهم وإلحادِهم والوصيَّةِ لأصحابِهم بالتَّمسُّكِ بما هم عليه.
فإذا قال لهم هؤلاء [أي أهل الكلام]: هذا الَّذي تذكرُونَه على خلافِ الشَّرعِ، والمصيرُ إليه كفرٌ وتكذيبٌ بالرُّسُل، لم يَستَرِيبُوا في ذلك ولم يَلحَقْهم فيه شكٌّ [أي في علومهم]، ولكنَّهم يستريبون بالشَّرعِ وتَنقُصُ مرتبةُ الرُّسُلِ من قلوبِهم.
وضرَرُ الدِّين وما جاءت به الرُّسُل بهؤلاء من أَعْظَمِ الضَّرَرِ، وهو كضَررِه بأولئك الملاحدة، فهما ضرران على الدِّين:
1ـ ضررُ مَنْ يَطْعَنُ فيه.
2ـ وضرَرُ مَنْ يَنْصُرُه بغير طريقه» اهـ كلامه رحمه الله «مفتاح دار السعادة» (3/1412 ـ 1419).


فتأمَّل ـ رحمك الله ـ هذا الكلام العظيم وكأنما يخاطب ملاحدة زماننا، وانتبِهْ إلى أنَّ أساسَ العلمانيَّةِ والإلحادِ الأوَّلَ: كسرُ قداسَةِ الدِّين بجهالات بعضِ المُنتَسِبين إليه، ثمَّ عزلُه عن ميادين الحياةِ المُختَلِفَةِ إذا تمكَّنُوا حتَّى يؤولَ الأمر إلى الإلحاد في العقائد، والطَّعنِ والقدحِ في الأحكام والشَّرائعِ جهرًا.

وَمَنْ تأمَّلَ قواعدَ العلمِ التَّجريبي ومناهِجَه عَلِمَ أنْ ليس له قدرةٌ على الحُكمِ على الحوادث من حيث حكمَتُها لا نفيًا ولا إثباتًا، وهو قولُ خَلْقٍ لا يُحْصَون من منصفي أهل الاختصاصِ منهم؛ وإنَّما غايةُ كلامِهم حولَ المُؤثِّرَات والموانِع إنْ وُجِدَت، والأسبابِ المُقتَضِيَةِ لوجود الحادثِ أو وقوعِه على صفةٍ مَا.

والله أعلى وأعلم.
والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.


التعديل الأخير تم بواسطة سليم حموني ; 31 Dec 2014 الساعة 10:34 AM سبب آخر: دفع إيهام
رد مع اقتباس