عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21 Nov 2017, 10:11 AM
عبد القادر شكيمة عبد القادر شكيمة غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2015
الدولة: الجزائر ولاية الوادي دائرة المقرن
المشاركات: 315
افتراضي فائدة جليلة تدل على مكانة فقهاء اللغة.

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذه أقوال المفسرين وبعض علماء اللغة في تفسير ﴿إِلَى ﴾ من قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ تظهر من خلالها فائدة جليلة تدل على مكانة فقهاء اللغة.
الآية:
قال تعالى: ﴿ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء:2]
- الأقوال:
اختلف المفسرون وبعض أهل اللغة في معنى ﴿إِلَى ﴾ على خمسة أقوال:
القول الأول: ﴿إِلَى ﴾ بمعنى مع؛ أي ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم. وهو قول جمع من المفسرين واللغويين منهم "مجاهد والأخفش وابن قتيبة وابن المنذر والسمرقندي وابن أبي زمنين والماوردي والثعلبي والبغوي وابن الحاجب والسيوطي والسعدي"( 1)، واختاره مكي ووجهه قائلا: (( وكون (إلى) بمعنى (مع) أولى، وعليه أكثر الناس، وذلك أن (إلى) أصلها أن تكون نهاية، أو تكون حدًّا، نحو ﴿إِلَى الَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]، فهذا نهاية لا يدخل ما بعدها فيما قبلها، ونحو قوله:﴿ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6] فهذا حد فتدخل الكعبان في الغسل، ومثله ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فإن خرجت (إلى) عن هذين الأصلين كانت بمعنى حرف آخر، فلما لم يحسن فيها في هذا الموضع النهاية ولا الحد كانت بمعنى مع. ))( 2).
واستشهد الثعلبي بقول الشاعر:
يَسُـدُّونَ أَبْوَابَ الْقِبَابِ بِضُمَّرٍ *** إِلَى عُنُنٍ مُسْتَوْثِقَاتِ الْأَوَاصِرِ( 3)
أي مع عنن( 4).
ووصف ابن عطية والقرطبي هذا القول بأنه غير جيد( 5).
القول الثاني: ﴿إِلَى ﴾ على بابها، فيكون الفعل مضمنا معنى الضم، أي: لا تضمّوا أموالهم إلى أمـوالكم. وهـو اختيـار "الفراء والنحاس والزمخشري وابن جزيء والفخر الرازي"(6 )، وذكره "أبو حيان والسمين الحلبي "( 7).
القول الثالث: ﴿إِلَى ﴾ في موضع الحال التقدير:مضمومة أو مضافة إلى أموالكم. ذكر هذا القول مع الأقوال السابقة "أبو حيان والسمين الحلبي"( 8)
القول الرابـع: ﴿إِلَى ﴾ بمعنى الباء؛ أي: بأموالكم؛ ففيه النهي عن أكل أموالهم بأموال أنفسهم تبعًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[الأنعام: 152]. ذكره "أبو منصور الماتريدي(9 )"( 10).
القول الخامس: الأخذ بمعنيين؛ بتضمين الفعل معنى الضم بدلالة حرف الجر، وعلى الأكل بصريحه، فيكون المعنى: ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوها. اختار هذا القول أكثر المفسرين منهم "الطبري والزجاج وابن أبي حاتم وأبو هلال العسكري(11 ) والواحدي والبيضاوي والنسفي وابن عطية وابن العربي والقرطبي والشوكاني"( 13) ، وذكره "أبو منصور الماتريدي"(12 )
ووصف ابن عطية والقرطبي القائلين بهذا القول بالحذاق( 14).
- القول الراجح:
الذي يترجح لي – والله تعالى أعلم – القول الخامس، وهو الأخذ بمعنيين للفعل ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا ﴾ بتضمينه معنى الضم بدلالة حرف الجر، وعلى الأكل بصريحه، فيكون المعنى: ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوها؛ وذلك لأنه جمع معاني كل الأقوال، ويخرج من خلاف النحويين في مسألة نيابة الحروف بعضها عن بعض، وهو القول المعتمِد على قول فقهاء اللغة في تضمين فعل معنى فعل آخر بدلالة حرف الجر.
قال ابن القيم مبينا هذا الفقه اللغوي العظيم: ((... الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو: رغبت عنه ورغبت فيه، وعدلت إليه وعدلت عنه، وملت إليه وعنه، وسعيت إليه وسعيت به، وأن تفاوت معنى الأدوات عَسِرُ الفرق، نحو قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فيشربون الفعل المتعدى به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى، وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار، تستدعي فطنة ولطافة في الذهن، وهذا نحو قوله تعالى: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ [الإنسان:6]، فإنهم يضمنون ﴿ يَشْرَبُ ﴾معنى يروى، فيعدونه بالباء التي تطلبها؛ فيكون في ذلك دليل على الفعلين، أحدهما: بالتصريح به، والثاني: بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، ومنه قوله في السحاب: (شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن). وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها؛ فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال يروى بها؛ لأنه لا يدل على الشرب بصريحه، بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله، ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[الحج:25] وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء، ولكن ضُمِّن معنى يهم فيه بكذا، وهو أبلغ من الإرادة، فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة، وإن لم تكن جازمة، وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه... ))( 15)
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
( 1) ينظر:تفسير مقاتل بن سليمان:(1/355)،معاني القرآن للأخفش:(1/244)،تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: (1/571)، تفسير ابن المنذر:(2/550)،بحر العلوم للسمرقندي:(1/279)،تفسيرابن أبي زمنين:(1/345)، الكشف والبيان للثعلبي:(3/243)،النكت والعيون للماوردي:(1/448)،تفسير البغوي:(2/160)،الإيضاح شرح المفصل لابن الحاجب:(2/137)،الدر المنثور للسيوطي:(2/425)،تفسير السعدي: (ص163).
( 2) الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي:(2/1216).
(3 ) البيت لسلمة بن الخرشب يصف الخيل: يريد:خيلا ربطت بأفنيتهم. والعنن: كنف سترت بها الخيل من الريح والبرد. والأواصر: الأواخي والأواري، واحدتها آصرة. ينظر:لسان العرب لابن منظور:(4/23).
( 4) الكشف والبيان للثعلبي:(3/243).
( 5) المحرر الوجيز لابن عطية:(2/6)، تفسير القرطبي:(6/21).
( 6) ينظر:معاني القرآن للفراء:(1/218)،معاني القرآن للنحاس:(2/9)،الكشاف للزمخشري:(1/465)،التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزيء:(1/177)،مفاتيح الغيب للرازي:(9/484).
( 7) ينظر: البحر المحيط لأبي حيان:(3/502)،الدر المصون للسمين الحلبي: (3/557).
( 8) البحر المحيط لأبي حيان:(3/502)،الدر المصون للسمين الحلبي:(3/557).
( 9) هو:محمد بن محمد بن محمود،أبو منصور،الماتريدي،السمرقندي،متكلم أصولي،من كبار العلماء،كان يقال له إمام الهدى،من مصنفاته:كتاب التوحيد،المقالات، تأويلات القرآن، تأويلات أهل السنة،توفي سنة (333هـ). ينظر في ترجمته:الجواهر المضية في طبقات الحنفية لمحيي الدين الحنفي:(2/130)،معجم المؤلفين لعمر كحالة:(11/300).
( 10) تفسير الماتريدي:(3/6).
( 11) هو:الحسن بن عبد الله بن سهل ب*ن سعيد بن يحيى بن مهران،أبو هلال العسكري،اللغوي الأديب،صاحب الصناعتين،كان موصوفا بالعلم والفقه، والغالب عليه الأدب والشعر،من مصنفاته: تفسير القرآن،كتاب صناعتي النّظم والنثر،شرح الحماسة،توفي سنة (395هـ). ينظر في ترجمته:تاريخ الإسلام للذهبي:(9/338)، بغية الوعاة للسيوطي:(1/506).
(12 ) ينظر:تفسير الطبري:(7/528)،معاني القرآن وإعرابه للزجاج:(2/7)،الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري: (1/115)،التفسيرالبسيط للواحدي:(6/294)،تفسيرالبيضاوي:(2/59)،تفسيرالنسفي:(1/328)،المحررالوجيز لابن عطية:(2/6)، أحكام القرآن لابن العربي:(1/403)،تفسير القرطبي:(6/21)،فتح القدير للشوكاني: (1/481).
( 13) ينظر:تفسير الماتريدي:(3/6).
( 14) ينظر:المحرر الوجيز لابن عطية:(2/6)، تفسير القرطبي:(6/21).
( 15) بدائع الفوائد لابن القيم:(2/21).


التعديل الأخير تم بواسطة عبد القادر شكيمة ; 21 Nov 2017 الساعة 10:15 AM
رد مع اقتباس