عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08 Dec 2009, 10:50 AM
أبو إبراهيم خليل الجزائري أبو إبراهيم خليل الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 379
افتراضي " حكمة التفريق بين الكافر و المؤمن في إنزال العقوبة " للشيخ الفاضل سمير مرابيع الجزائري حفظه الله .

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته


" حكمة التفريق بين الكافر و المؤمن في إنزال العقوبة "


بقلم الشيخ الفاضل :


أبي وائل سمير محمد ناصر مرابيع الجزائري


- حفظه الله و رعاه -







قد يشكل على بعض الخاصة فضلا عن العامة ، فيقولون : إذا كانت الحسنات و السيئات تحمل نفعا و ضررا للمسلمين ، فما بالها ليست كذلك على الكافرين ، حيث نراهم يتنعمون في الدنيا و يتمتعون بلذاتها و شهواتها ، من غير أن يلحقهم عقاب و هم سبب كل عذاب ؟

و قد حمل هذا الإستشكال بعض المتعالمة على التشكيك في النص الشرعي ، و تعطيل و تأويل الوحي السماوي ، و تحكيم النتاج العقلي ، و السير وراء كل متفيهق عمي ، حتى اعتبروا مقاييس النجاح و الفلاح و العزة و النصر ما وجدوه بأيدي الكفرة من نعيم زائل ، و زخرف عن الحق مائل ، فاتبعوا كل ناعق جاهل ، و رويبضة متحامل ، و نبينا صلى الله عليه و سلم يكذب بصريح قوله ما اعتقدوه و التزموه و اعتبروه فيقول : " الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر " (1).

يقول القاضي عياض رحمه الله : " معناه أن المؤمن في الدنيا ممنوع من الشهوات المحرمة ، مكلف بالأعمال الشاقة ، فإذا مات استراح من هذا ، و انقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم المقيم ، و أما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل له في الدنيا مع قلته و تكديره بالشوائب ، حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم " (2) ، بل النصوص العديدة و الروايات المحكمة السديدة جاءت لبيان هذا الأصل ، فالله جل و علا يعجل مثوبة أعمال الكافر في الدنيا مع ما يمنحه إياه من الطيبات و الملذات ، حتى إذا بلغ يوم القيامة أدخل النار و بئس القرار ، لأنه مكذب بيوم القيامة ، منكر للبعث و النشور ، فكيف يثاب في يوم هو لا يؤمن به و يكفره ؟ قال جل و علا : { و قيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [ السجدة : 20 ].

ومن الآيات الدالة على هذا الأصل قوله سبحانه : { و يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تفسقون }[ الأحقاف : 20 ] ، و قال جل جلاله : { و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم }[ محمد : 12 ] ، حتى أيقن الكفار و المشركون بأن سبيل النجاة من النار لا يكون إلا بجمع المال و عد الأولاد فخاب ظنهم و ساء سبيلهم ، قال سبحانه : { و قالوا نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين * قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و لكن أكثر الناس لا يعلمون * و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن و عمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون }[ سبأ : 35 – 37 ] .

لهذا قد يغيب هذا الأصل عن كثير ، إلا من أوتي حظا من علم و إيمان و يقين ، يقول سبحانه و تعالى مخبرا عمن اغتر بكنوز قارون : { قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * و قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا و لا يلقاها إلا الصابرون }[ القصص : 79 ] .

أما المؤمن فإن الدار الآخرة هي مركز جزائه و موعد مكافأته ، مع تعجيل شيء من ثواب حسناته في الدنيا خشية السآمة و رفعا للحرج و الضيق ، فربنا سبحانه و تعالى يكفر عنه سيئاته في حياته الدنيا ، بأشكال و أنواع من البلاء و المحن ، و كلما ازدادت معاصيه و كثرت مخازيه ، ازداد شقاؤه و عظم بلاؤه ، و للآخرة خير له و أبقى ، فيجازى يومها بالثواب الكثير و الجزاء الوفير ، حكمة من رب عزيز خبير ، يقول صلى الله عليه و سلم : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا و يجازى بها في الآخرة ، و أما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل به لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها " (3) .

لهذا ما كانت كثرة المصائب و المتاعب و الأزمات و النكبات التي ما برحت تصيب المؤمن و يغتم لها قلبه ، إلا دليلا على خيرية الأمة المحمدية ، و أفضليتها على سائر الأمم ، يقول صلى الله عليه و سلم : " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا و إذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة " (4) ، لذا شبه صلى الله عليه و سلم المؤمن بالنبتة الرطبة اللينة التي تأتيها الرياح العاتية (5) ، فتأخذها يمنة و يسرة من غير أن تكسرها أو تقتلعها ، و ضرب للمنافق و الكافر و الفاجر مثلا بالشجرة الباسقة العظيمة التي لا تؤثر فيها الرياح بشيء ، حتى يأتي أمر الله فيجتثها دفعة واحدة ، يقول صلى الله عليه و سلم : " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث اتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء ، و الفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء " (6) .

فلا غرابة إذن ، أن يذكر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه رضي الله عنهم بهذا الأصل حين يغيب عن الأذهان ، أو تعظم شفقتهم على حال خير الأنام صلى الله عليه و سلم ، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : " دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه و بينه فراش ، قد أثر الرمال بجنبه متكىء على وسادة من أدم حشوها ليف ، فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة (7) فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك ، فإن فارس و الروم قد وسع عليهم و أعطوا من الدنيا و هم لا يعبدون الله ، فجلس النبي صلى الله عليه و سلم و كان متكئا فقال : " أو في شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " ، فقلت : يا رسول الله استغفر لي " (8) ، فكانت عظة لعمر رضي الله عنه و تذكرة لمن أحسن النظر و أخذ بالعبر .

و قد أحسن صلى الله عليه و سلم وصفها و نعتها ، لإظهار هوان منزلتها و حقارة رتبتها ، فقال : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " (9) ، بل بالغ صلى الله عليه و سلم في ذلك تأكيدا و تنفيرا ، حتى شبهها بالميتة النتنة المعيبة التي لا يقربها المؤمن إلا عند خشية الهلاك ، فعن جابر رضي الله عنه قال : " مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسوق داخلا من بعض العالية و الناس كنفيه ، فمر بجدي أسك (10) ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال : " أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ " فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء و ما نصنع به ؟ قال : " أتحبون أنه لكم ؟ " قالوا : و الله لو كان حيا كان عيبا فيه ، لأنه أسك فكيف و هو ميت ؟ فقال : " فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " (11) .

حينئذ لا يغتر المؤمن بمن أوتي و يعطى و تسبغ عليه الخيرات و النعم و الملذات ، مع قبح أقواله و سوء أفعاله و خبث مقاصده ، فإن ذلك طريق هلاكه و علامة شقائه ، فيقول صلى الله عليه و سلم : " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج ثم تلا : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون }[ الأنعام : 44 ] " (12) ، بل البشارة السارة ، أن جعل الله جل و علا هذه المحن و البلايا سببا لحط الخطايا و الرزايا حتى يسير العبد المؤمن على وجه الأرض و ما عليه خطيئة ، يقول صلى الله عليه و سلم : " ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه و ولده و ماله حتى يلقى الله و ما عليه خطيئة " (13) ، و في رواية : " فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " (14) .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : " فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءا ، ثم ينقطع و يعقبه أعظم اللذة ، و الكافر يحصل على اللذة و السرور ابتداءا ثم ينقطع و يعقبه أعظم الألم و المشقة " (15) ، فالأمراض و الأوجاع و الأسقام التي يبتلى بها المؤمن في حياته تحط عنه الكثير من الخطايا و تكفر عنه كثيرا من السيئات ، قال صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى يبتلي عبده المؤمن بالسقم حتى يكفر عنه كل ذنب " (16) .

و من ثم ، يجب أن نوقن بأن المركز الأصيل لعقوبة الكفار هي الدار الآخرة ، إلا أنه قد يظهر شيء منها في الحياة الدنيا لحكم ربانية سماوية ، فإذا قاموا بما يستوجب تعجيل العقوبة في الدنيا ، كالظلم مثلا ، قوبلوا بأنواع من العقوبات و النكبات في حياتهم الدنيا قبل الآخرة ، و ما قصص الدول و الأمم البائدة المذكورة في القرآن عنا ببعيد ، قال صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، قال : ثم قرأ : { و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد }[ هود : 102 ] " (17) .

فهذه حياة المسلم المؤمن الصادق و تلك حياة الكافر المشرك المنافق ، فهو سبحانه و تعالى خالق الأسباب ، و مدبر شؤون خلقه ، قد جعل فرقانا بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان على نحو هذا البيان ، فهل عسينا أن نستبدل دنياهم بأخرانا ، و قد رضوا بأن تكون ثمنا لأخراهم ، قال جل و علا عنهم : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة }[ البقرة : 86 ] ، و قال سبحانه : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا و الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة و الله يرزق من يشاء بغير حساب }[ البقرة : 212 ] .

و صلى الله على سيدنا محمد ، و على آله و صحبه أجمعين .





الحواشي :

(1) رواه مسلم (2956) من كتاب الزهد و الرقائق .
(2) " شرح الأبي على مسلم " (9/427) .
(3) رواه مسلم (2808) : كتاب صفة القيامة و الجنة و النار ، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا و الآخرة و تعجيل حسنات الكافر في الدنيا .
(4) حسن : رواه الترمذي (2507) : أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، باب الصبر على البلاء ، انظر : " الصحيحة " لزيادة تخريجه (1220) .
(5) و هي بمعنى المصائب التي تلحق المؤمن .
(6) رواه البخاري (5320) ، و مسلم (2810) ، و اللفظ للبخاري .
(7) الغهاب : هو الجلد ما لم يدبغ [" مختار الصحاح "(ص31)] .
(8) متفق عليه : البخاري (4895) ، مسلم (1479) .
(9) صحيح : رواه الترمذي (2422) ن أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : باب ما جاء في هوان الدنيا على الله ، انظر : " الصحيحة " لزيادة تخريجه (686/943) .
(10) جدي أسك : أي صغير الاذنين ، قاله النووي في " شرح مسلم " (18/93) .
(11) مسلم (2957) : كتاب الزهد .
(12) صحيح : رواه أحمد (4/145) ن انظر : " الصحيحة " لزيادة تخريجه (413) .
(13) حسن صحيح : رواه الترمذي (2510) ، أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، باب في الصبر على البلاء ، انظر : " الصحيحة " لزيادة تخريجه (228) .
(14) صحيح : رواه الترمذي (2509) ، أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، باب في الصبر على البلاء ، انظر : " الصحيحة " لزيادة تخريجه (143) .
(15) " شفاء العليل " (2/671) .
(16) صحيح : رواه الحاكم (1/347/348) ، انظر " الصحيحة " لزيادة تخريجه (3393) .
(17) متفق عليه : البخاري (4409) ، و مسلم (2583) .



- انتهى -




انظر : مجلة الإصلاح – العدد السادس – ذو القعدة/ ذو الحجة 1428ه .

رد مع اقتباس