عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11 Dec 2014, 11:27 PM
مراد قرازة مراد قرازة غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
الدولة: الجزائر ولاية أم البواقي
المشاركات: 438
افتراضي

[
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :
فقد استشكل بعض الإخوان معاني هذا النّظم الذي رفعته ، - وإن كنت قد بيّنت فيه أصله الذي استخلصته منه ، وهو رسالة لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال :" كان الله ولم يكن شيء معه..." الحديث ، فمن شاء رجع إلى الأصل فإنّه أجمع وأمتع ، وهذا بيان بسيط لما في هذه المسألة من كلام ، فأقول وبالله التوفيق :
مسألة " بداية الخلق " من أهم المسائل العقدية الّتي كثرت فيها الآراء وتناولها بالبحث العلماء والمتكلمون والفلاسفة وحتّى علماء الطّبيعة , وقد اختلفوا فيها اختلافا كبيرا , رغم أنّها من كبريات المسائل الّتي بيّنها الله عزّ وجلّ في كتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في سنّته , وتواترت نصوص السّلف في شرحها وإيضاحها , وقد حملني على إفرادها بالنظم والبيان كثرة من زلّ فيها عن الصّواب , حتّى من المنتسبين إلى العلم والله المستعان.
تحرير المسألة :
إنّ حقيقة هذه المسألة هي الجواب عن السؤّال الجدلي التالي :
هل للخلق بداية ونهاية ؟ وما أوّل وآخر مخلوق ؟ وهل اتّصف الله بالخلق قبل أن يخلق؟
مع الأخذ بعين الإعتبار أنّه لا يمكن الجواب عن هذا السّؤال إلاّ بعد فهم القصود من كلمة الخلق وهل هو لفظ خاص يراد به هذا العالم الّذي نعيشه ؟ أو مطلق الخلق الّذي هو صفة الله عزّ وجلّ ؟ والمراد من البحث الثّاني غير أنّنا لابدّ أن نعرّج على السّؤال الأول بشيء من الإيضاح
فعلى هذا التّفصيل يكون الجواب على جزأين :
الجزء الأوّل : بداية ونهاية العالم الّذي نعيشه :
أ- الإجماع واقع بين المنتسبين إلى الإسلام أنّ هذا العالم الّذي نعيشه له بداية ونهاية , واتّفقوا أنّ نهايته بقيام السّاعة , أمّا البداية فقال أهل السّنة والجماعة , والأشاعرة بأنّها كانت بخلق القلم كما جاء في الحديث الصّحيح [1]
ب- رأى الدّهرية من الفلاسفة وغيرهم جواز أن لا يكون لهذا العالم بداية ولا نهاية وقالوا بإمكان تسلسل الأحداث بداية ونهاية , لأنّهم في مجملهم منكرون للخالق جلّ وعلا وينسبون الفعل للطبيعة نفسها
الجزء الثّاني : بداية ونهاية الخلق مطلقا :
اختلفت مذاهب المتكلّمين من المنتسبين للإسلام في هذا المقام إلى ثلاثة أقوال :
أ- الجهمية والمعتزلة [2] : قالوا أنّ للخلق بداية ونهاية ,ولم يحدّدوا البداية ولكنّهم قالوا بأنّ النّهاية تكون بدخول الجنّة والنّار , ثمّ يفني الله كلّ شيء , وقال أبو الهذيل العلاّف المعتزلي أنّ الوجود لا يفنى بل تفنى الحركات والأفعال وتبقى الذّوات جامدة .
وقالوا أنّ الله عزّ وجلّ لم يوصف بالخلق ولم يتسمّى به إلاّ بعد وجود أثره لانّ الاسماء والصفات مخلوقة أيضا وهي جزء من هذا الأثر , وهو أيضا لم يكن بمراد ولا مقدور له , تعالى الله عمّا يصفون علوا كبيرا
وأمّا كيف صار الله خالقا بعد أن لم يكن , فجمهورهم على الانتقال من الامتناع الذّاتي إلى الامكان الذّاتي , على طريقة التّأثير بالذّات المشهورة [3] , وأمّا النّظّام فقال بأنّ الخلق كلّه عبارة عن معنى واحد متعلّق بذات الله وظهر للوجود شيئا فشيئا وعلى أشكال مختلفة [4].
قال ابن أبي العز الحنفي (ت792)رحمه الله :" ولا شكّ في فساد قول من منع ذلك-يعني تسلسل الحوادث- في الماضي والمستقبل [5]
ب- الاشاعرة والماتوريدية [6]: رأوا بأنّه ليس للخلق نهاية , فأهل الجنّة والنار خالدون فيها كما دلّت عليه النّصوص , لكنّهم قالوا بأنّ للخلق بداية واختلفوا في أوّل مخلوق فبعضهم قال القلم وبعضهم قال بأنّه العرش
وعلى هذا فإنّ الله عزّ وجلّ قد وصف وتسمّى بالخلق قبل وجود أثره, فله صفة الخلق واسم الخالق ولا مخلوق " فليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداث البريّة استفاد اسم الباري" [7]
وهو جل ّ وعلا مع ذلك قادر على الخلق مريد له, واختلفوا في كيفية الخلق, فقال الأشاعرة إنّه مجرّد جوازات من متعلّقات القدرة , وأماّ الماتريدية فقالوا بأنّها آثار لصفة قديمة هي التكوين [8]
قال ابن أبي العز الحنفي (ت792)رحمه الله :" والقول بأنّ الحوادث لها أوّل يلزم منه التّعطيل قبل ذلك وأنّ الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثمّ صار فاعلا " [9]
ج- أهل السّنة والجماعة [10] : قالوا بأنّه ليس للخلق بداية كما أنّه ليس للخلق نهاية وأنّ الله جلّ وعلا لم يزل , ولن يزال , خالقا قادرا مريدا , ولم ولن يكون يوما معطّلا عن الفعل والخلق والايجاد
قال ابن أبي العز الحنفي (ت792)رحمه الله :" وأمّا قول من قال بجواز حوادث لا أوّل لها , من القائلين بحوادث لا آخر لها , فأظهر في الصّحة من قول من فرّق بينهما " [11]
وقد استدل أه السنّة على مذهبهم بنصوص كثيرة منها قوله تعالى {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (16) سورة البروج وقوله "{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} (86) سورة الحجر وقوله {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (17) سورة النحل وقوله {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (29) سورة الرحمن وغيرها من الآيات الكثيرة الّتي تدلّ على أمور منها :
- أنّه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته وأنّه إذا أراد شيئا فعله لكمال قدرته , فإرادته وفعله متلازمان
- أنّه لم يزل كذلك , لأنّ الآيات سيقت في معرض المدح , ولا يجوز أن يكون الله فاقدا لهذا الكمال في وقت من الأوقات أزلا وأبدا, لأنّه متى كان كذلك وصف بالنّقص والعجز [12]
وأما المخالفون فقد استدلوا من النّقل بحديثين :
الحديث الأول : قوله صلّى الله عليه وسلّم :" إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ، وأمره أن يكتب كل شيء يكون" [13]
وأجيب عنه بأنّ المراد إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مبدأ هذا العالم المشهود الّذي خلقه الله في ستّة أيّام بدليل قوله صلى الله عليه وسلّم في بعض طرق الحديث " وكان عرشه على الماء " يعني قبل خلق القلم
وأجيب عنه أيضا بأنّ المراد إخباره صلّى الله عليه وسلّم أنّه حين خلقه الله أمره بالكتابة من فوره بدليل قوله صلى الله عليه وسلّم في بعض طرق الحديث " اوّل ما خلق الله القلم " بالنصب, وفي بعضها "لمّا خلق الله القلم " , قال ابن أبي العز الحنفي " وهو الصّحيح " [14]
الحديث الثاني : قوله صلّى الله عليه وسلّم :" كان الله ولم يكن شيء معه "
وأجيب عنه أيضا بمثل ما أجيب عن الحديث الاولّ من أنّ المراد منه العالم المشهود, وبأجوبة أخرى منها أنّ الحديث ورد بلفظ " قبله" ولفظ " غيره " بدل لفظة "معه " والأولى هي أصح وهي لفظة البخاري ولها شاهد في صحيح مسلم
قال الحافظ :وفي رواية غير البخاري "معه" والقصّة متحدة فاقتضى ذلك أنّ الرواية بالمعنى لكن رواية الباب أصرح في العدم [15]
قال ابن أبي العز الحنفي (ت792)رحمه الله :" ولهذا كان كثير من أهل العلم إنّما يرويه بلفظ القبل , كالحميدي والبغوي وابن الأثير وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرّض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق" [16]
وأمّا الأدلة العقلية الّتي استدلوا بها فكثيرة جدا والجواب عنها يحتاج لجهد كبير ووقت طويل مع قليل فائدة ترجى من بيانها ,وقد بسط القول فيها شيخ الإسلام في كتابه "درء تعارض العقل والنقل " وكتاب " منهاج السنة النبوية " فيرجع اليه من شاء
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
1- سلسلة الأحاديث الصّحيحة رقم 133
2- ويلحق بهم الشيعة والخوارج فهم على مذهب المعتزلة إلاّ في مسائل الإيمان والإمامة والصّحابة وبعض التفاصيل الصغيرة الأخرى
ويلحق بالمعتزلة أيضا فرقة "الكرّامية " وهؤلاء هم أشر الطوائف في هذا الباب فإنّهم مع قولهم بحدوث الافعال فإنهم جعلوها متعلّقة بذات الله عزّ وجل فجمعوا الشرّين والله المستعان
3- يقول المعتزلة بالتّأثير الذّاتي لأنّهم ينكرون الصّفاة والقدرة والإرادة .
4- هذا ما يسمّيه المتكلّمون بقفرة النّظام .
5- ( شرح العقيدة الطحاوية ص84)
6- إنظر على سبيل المثال( الصيف الصقيل) لتقي الدين السبكي , ( فتح الباري –المجلد السادس) لابن حجر العسقلاني , ( الفتاوى الحديثية ) لابن حجر الهيثمي......
7- من كلام الإمام الطحاوي في عقيدته , وهذا من المواضع القليلة الّتي انتقدها العلماء في هذه العقيدة ( أنظر شرح الطحاوية ص84)
8- هذه المسألة تسمّى عند المتكلّمين "مسألة الإيجاد" وهي المسألة الأهم الّتي اختلف فيها الأشاعرة عن الماتوريدية
9- ( شرح العقيدة الطحاوية ص85)
10- لمعرفة المزيد أنظر على سبيل المثال ( شرح العقيدة الطحاوية)لابن أبي العز الحنفي , (نقد مراتب الإجماع ) ، والرسالة السالفة الذكر لشيخ الإسلام إبن تيمية, ( شرح العقيدة الطحاوية)للشيخ صالح آل الشيخ( شرح عقيدة اهل السنّة والجماعة)للشيخ ابن عثيمين ,(الكافية الشافية - شرح هرّاس - ) لشيخ الإسلام إبن القيّم
11- ( شرح العقيدة الطحاوية ص84)
12- من كتاب " شرح العقيدة الطحاوية " بتصرف يسير
13- سلسلة الأحاديث الصّحيحة رقم 133
14- ( شرح العقيدة الطحاوية ص242)
15- صحيح البخاري رقم 3191
16- صحيح مسلم (مع النووي ص17/35 )
17- الفتح6/289
18- ( شرح العقيدة الطحاوية ص86) ولشيخ الإسلام الرسالة التي ذكرت في توجيه هذا الحديث وقد نصر فيه عقيدة السلف من خمسة عشر وجها فيرجع إليها[]

رد مع اقتباس