عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 06 Dec 2016, 10:48 PM
فتحي إدريس
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي خزانة تحف العناية بكتاب "البداية والنهاية" (14)

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده.
أمَّا بعد:
فهذه هي الحلقة الرَّابعة عشرة من «خزانة تُحف العناية بكتاب "البداية والنِّهاية"» وأوَّلها:

· ردُّ الاستدلال بقولِ إدريس -عليه السَّلام- في حديث الإسراء على أنَّه ليسَ في عمود نَسَبِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

قال الحافظُ –رحمه الله-: «وهو (أي: إدريس -عليه السَّلام-) في عمودِ نسب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ما ذكره غيرُ واحدٍ من علماء النَّسب...
وقد زعم بعضُهم أنَّ إدريس –عليه السَّلام- لم يكن قبلَ نوح –عليه السَّلام- بل في زمان بني إسرائيل.
قال البخاري –رحمه الله- (4/ 135): «ويُذْكَرُ عن ابن مسعودٍ، وابن عباسٍ: أنَّ إلياس هو إدريس».
واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري، عن أنس في الإسراء أنَّه لما مرَّ به -عليه السلام- قال له: «مرحبا بالأخ الصالح، والنَّبي الصالح»، ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم: «مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح». قالوا: فلو كان في عمود نسبه لقالَ له كما قالا له.
وهذا لا يدلُّ ولا بدَّ على ذلك لأنَّه: قد لا يكون الرَّاوي حفظه جيِّدا، أو لعلَّه قاله له على سبيل الهضم والتَّواضع، ولم ينتصب له في مقام الأبوَّة كما انتصب لآدم أبي البشر، وإبراهيم الَّذي هو خليل الرحمن وهو أكبر أولي العزم بعد محمَّد صلوات الله عليهم أجمعين».[1/ 236]

· احتمالاتُ المدَّة بين آدم ونوح عليهما السَّلام وردُّ قولِ من زعم أنَّ قَابِيلَ وبنيه عبدوا النَّار

«روى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي أمامة رضي الله عنه : «أنَّ رجلا قال: يا رسول الله أنبيٌّ كان آدم؟ قال: نعم مكلم. قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون». قلت: وهذا على شرط مسلم، ولم يخرجه.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلُّهم على الإسلام».
فإن كان المراد بالقرن مائة سنة، كما هو المتبادر عند كثير من الناس فبينهما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قيَّد به ابن عباس بالإسلام; إذ قد يكون بينهما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على الإسلام، لكنَّ حديث أبي أمامة يدلُّ على الحصر في عشرة قرون، وزادنا ابن عباس أنَّهم كلُّهم كانوا على الإسلام، وهذا يردُّ قول من زعم من أهل التَّواريخ، وغيرهم من أهل الكتاب: أن قابيل وبنيه عبدوا النَّار، والله أعلم.
وإن كان المراد بالقرن الجيل من النَّاس، كما في قوله تعالى: ﴿وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح﴾[الإسراء: 17]، وقوله: ﴿ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين﴾[المؤمنون: 31]، وقال تعالى: ﴿وقرونا بين ذلك كثيرا﴾[الفرقان: 38]، وقال: ﴿وكم أهلكنا قبلهم من قرن﴾[مريم: 74]، وكقوله صلى الله عليه وسلَّم: «خير القرون قرني» الحديث؛ فقد كان الجيل قبل نوح يعمَّرون الدُّهور الطويلة فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السِّنين، والله أعلم».[1/ 238] بتصرُّف يسير.

قلت: أثرُ ابن عباسٍ رضي الله عنه لم أجده في "صحيح البخاريِّ" وقد ذكر تخريجه وصحَّته الألباني –رحمه الله- في "السِّلسلة الصَّحيحة" (2/ 167) رقم (491)، وحديث أبي أمامة رضي الله عنه فيها (7/ 852) رقم (3289)، وحديث: "خير القرون قرني" نبَّه الشَّيخ الألباني –رحمه الله- أنه لم يصحَّ بهذا اللفظ بل بلفظ: "خير النَّاس" [انظر: "موسوعة الألباني في العقيدة" (1/ 217-218)].

· برهانُ هودٍ وآيتُه ومن استدلَّ بها من الأنبياء كذلك –عليهم الصَّلاة والسَّلام-

«...يقولون (أي: عادٌ قوم هودٍ –عليه السَّلام-) ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به، وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرَّد قولك بلا دليل أقمته، ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه، وعندنا: إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك، وهو قولهم: ﴿إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون﴾[هود: 54-55] أنتم وهي جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلواإليه، وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة، ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم، ولا أفكر فيكم، ولا أنظر إليكم ﴿إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم﴾[هود: 56] أي: أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به، واستند إليه، فلست أبالي مخلوقا سواه، ولست أتوكل إلا عليه، ولا أعبد إلا إياه، وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ; لأنهم لم يصلوا إليه بسوء، ولا نالوا منه مكروها، فدل على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدَّليل بعينه قد استدل به نوح -عليه السلام- قبله في قوله: ﴿يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون﴾ [يونس: 71]، وهكذا قال الخليل عليه السلام: ﴿ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم﴾[الأنعام: 80-83]».[1/ 289-290]

قلت: قد أفادني شيخنا أبو البراء خالد حمُّودة –حفظه الله ووفَّقه- أنَّ آية هود –عليه السَّلام- هيَ أنَّهم تحدَّاهم أن يؤذوه فلم يقدروا أن يصلوا إليه، أمَّا غيره فتحدَّوهم بآياتٍ أخرى غيرِ عدم القدرة على الأذيَّة، ولهذا لما كانت آية هود خفية ظنَّ بعض النَّاس أنَّه لا آية له.

· تنزيه الأنبياء –عليهم السَّلام- وصيانتهم عمَّا لا يليق بمنزلتهم ولو كان مشروعا فكيف بغيره!

قال الحافظ –رحمه الله- في سارة زوج إبراهيم -عليه السَّلام-: «والمشهورُ أنَّها ابنة عمه هاران الَّذي تنسب إليه حرَّان، ومن زعم أنَّها ابنة أخيه هاران أخت لوط، كما حكاه السُّهيلي عن القتبي والنقاش فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم، وادَّعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل، ولو فرض أنَّ هذا كان مشروعا في وقت، كما هو منقول عن الرَّبانيين من اليهود، فإنَّ الأنبياء لا تتعاطاه، والله أعلم».[1/ 347]

قلت: وبهذا الأصلِ العظيمِ تردُّ ما يوجدُ في بعض الإسرائيليات من نسبةِ أمورٍ للأنبياء –عليهم الصَّلاة والسَّلام- لا تليقُ بمكانتهم ومنزلتهم التي بوأهم الله إيَّاها، ومن ذلكَ الخبر المشهور الَّذي يذكره بعض المفسِّرين عن افتتان داود –عليه السَّلام- بامرأة جنديه ويفسَّر بها قوله تعالى: ﴿وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب﴾ الآيات من سورة ص، وقد ذكره الخازنُ في "تفسيره" (4/ 36) وأعقبها بقوله: «(فصل في تنزيه داود عليه الصَّلاة والسَّلام عمَّا لا يليقُ به وما ينسب إليه) اعلم أنَّ من خصَّه الله تعالى بنبوَّته وأكرمه برسالته وشرَّفه على كثير من خلقه وائتمنه على وحيه وجعله واسطةً بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصَّفوة الأمناء ذلك»، وقال الشَّيخ الألباني –رحمه الله- في "السلسلة الضعيفة"(1/ 484): «وقصة افتتان داود عليه السلام بنظره إلى امرأة الجندي أوريا مشهورة مبثوثة في كتب قصص الأنبياء وبعض كتب التفسير، ولا يشك مسلم عاقل في بطلانها لما فيها من نسبة ما لا يليق بمقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل محاولته تعريض زوجها للقتل، ليتزوجها من بعده!» وقد بحثَها الشَّيخ علي حشيش –حفظه الله- في كتابه: "تحذير الدَّاعية من القصص الواهية" (1/ 314) فراجعه.

· اتصال بشارة إبراهيم –عليه السَّلام- واكتمالها بأمَّتنا

«...وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل يأمره أن يمدَّ بصره وينظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وبشَّره بأنَّ هذه الأرض كلَّها سأجعلها لك، ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض، وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»».[1/ 353]

· البشارة باثني عشر عظيمًا لأمَّتنا والرَّدُّ على الرَّافضة في ادعائهم أنهم أئمَّتهم

«...ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة فخر لله ساجدا، وقال له: قد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه وكثرته ونميته جدا كبيرا، ويولد له اثنا عشر عظيما، وأجعله رئيسا لشعب عظيم.
وهذه أيضا بشارة بهذه الأمَّة العظيمة، وهؤلاء الاثنا عشر عظيمًا هم الخلفاء الاثنا عشر المبشَّر بهم في حديث عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون اثنا عشر أميرا» ثم قال: كلمة لم أفهمها فسألت أبي ما قال؟ قال: «كلهم من قريش». أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية «لا يزال هذا الأمر قائما»، وفي رواية «عزيزا حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».
فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة؛ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومنهم عمر بن عبد العزيز أيضا، ومنهم بعض بني العباس، وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقا، بل لا بد من وجودهم.
وليس المراد الأئمة الاثني عشر الذي يعتقد فيهم الرافضة الذين أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا، وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون، فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي حين ترك القتال وسلم الأمر لمعاوية، وأخمد نار الفتنة، وسكن رحى الحروب بين المسلمين، والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الأمة في أمر من الأمور، وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذاك هوس في الرءوس، وهذيان في النفوس لا حقيقة له ولا عين ولا أثر».[1/ 355-356]

· دلائلُ أفضلية إبراهيم على المرسلين غير نبيِّنا عليهم الصَّلاة والسَّلام

قال الحافظ –رحمه الله-:
«...وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى، وهما قوله تعالى: ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا﴾[الأحزاب: 7]، وقوله: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾[الشورى: 13] الآية.
ثم هو أشرفُ أولي العزم بعد محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو الَّذي وجده عليه السَّلام في السَّماء السَّابعة مسندًا ظهره بالبيت المعمور الَّذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم، وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس في حديث الإسراء؛ من أن إبراهيم في السادسة وموسى في السابعة، فمما انتقد على شريك في هذا الحديث والصحيح الأول.
ثم ممَّا يدلُّ على أن إبراهيم أفضل من موسى الحديث الذي قال فيه: «وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم». رواه مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات الله وسلامه«.[1/ 393]
وقال –رحمه الله-: «...ولما كان إبراهيم عليه السلام أفضل الرسل وأولي العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أمر المصلي أن يقول في تشهده ما ثبت في "الصحيحين" من حديث كعب بن عجرة وغيره قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد».[1/ 396]


فتحي إدريس
21/صفر/1438


التعديل الأخير تم بواسطة فتحي إدريس ; 06 Dec 2016 الساعة 11:02 PM
رد مع اقتباس