عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12 Jul 2019, 06:58 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





حقيقة التّوكّل على الله عزَّ وجلّ

للشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد البدر وفّقه الله للخير كلّه.

إنّ التّوكل على الله وحده وتفويض الأمور كلّها إليه والاعتماد عليه في جلب النعماء ودفع الضرّ والبلاء مقامٌ عظيمٌ من مقامات الدّين الجليلة وفريضةٌ عظيمة يجب إخلاصها لله وحده ، وهو من أجمع أنواع العبادة وأهمّها لما ينشأ عنه من الأعمال الصّالحة والطّاعات الكثيرة ، فإنّه إذا اعتمد القلب على الله في جميع الأمور الدّينية والدّنيوية دون مَن سواه، صحّ إخلاصه وقويَت معاملته مع الله وزاد يقينه وثقته بربّه تبارك وتعالى .

وقد أمر الله سبحانه بالتّوكّل عليه في مواطن كثيرة من القرآن الكريم وجعل التّوكّل عليه شرطاً في الإيمان فقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] ، وقال تعالى : {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84] . فجعل دليل صحّة الإيمان والإسلام التّوكّل على الله ، وكلّما قوي إيمان العبد كان توكّله أقوى ، وإذا ضعف الإيمان ضعف التّوكّل . فإذا كان التّوكّل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولابد ، فالتّوكّل أصل لجميع مقامات الدّين ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلاّ على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلاّ على ساق التّوكّل .

وحقيقة التّوكّل هو عمل القلب وعبوديّته، اعتماداً على الله وثقةً به والتجاءً إليه وتفويضاً إليه ورضا بما يقضيه له، لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوَّض إليه أموره، مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها. هذه هي حقيقة التّوكّل: اعتمادٌ على الله وحده لا شريك له مع فعل الأسباب المأمور بها والقيام بها دون تعدٍّ إلى فعل سببٍ غير مأمور أو سلوك طريق غير مشروع .

والنّاس منقسمون في هذا الأمر الجليل إلى طرفين ووسط: فأحد الطّرفين عطَّل الأسباب محافظةً على التّوكّل ، والطّرف الثاني عطَّل التّوكّل محافظةً على الأسباب ، والوسط عَلِم أنّ حقيقة التّوكّل لا تتمّ إلاّ بالقيام بالأسباب فتوكّل على الله في نفس السبب .

وقد جُمع بين هذين الأصلين في نصوص كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم : ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) [1] ، ففي قوله (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) أمرٌ بكل سببٍ ديني ودنيوي، بل أمرٌ بالجدِّ والاجتهاد فيه والحرص عليه نيةً وهِمّةً وفعلاً وتدبيرا، وفي قوله (( وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ )) إيمان بالقضاء والقدر وأمرٌ بالتّوكّل على الله الذي الإعتماد التّام على حوله وقوّته في جلب المصالح ودفع المضار مع الثّقة التّامة به في نجاح ذلك ، فالمُتَّبِع للرسول صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يتوكّل على الله في أمر دينه ودنياه وأن يقوم بكل سببٍ نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ : ((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ )) [2]. فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى الجمع بين الأمرين: فعل السّبب ، والإعتماد على الله.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا )) [3] فذكَر الأمرين معاً، فإنَّ غدوَّ الطير وهو ذهابها في الصباح الباكر هو سعيٌ في طلب الرزق وتحصيله .

وروى ابن أبي الدنيا عن معاوية ابن قرة قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناساً من أهل اليمن فقال: مَن أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكِّلون، قال: "بل أنتم المتواكلون، إنّما المتوكّل الذي يلقي حَبَّه في الأرض ويتوكّل على الله عز وجل" .

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول قوله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة:197] قال: ((كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } )) [4].

وبهذا يُعلم أنّ التّوكّل لابد فيه من الجمع بين الأمرين: فعل السبب والإعتماد على المسبِّب وهو الله، أمّا مَن عطَّل السبب وزعم أنّه متوكّل فهو في الحقيقة متواكل مغرور مخدوع، وفعله هذا ما هو إلاّ عجزٌ وتفريطٌ وتضييع .

فلو قال قائل مثلاً إن قُدِّر لي أدركت العلم اجتهدتُ أو لم أجتهد، أو قال: إن قُدِّر لي أولاد حصلوا تزوجتُ أو لم أتزوج، وهكذا من رجا حصول ثمرٍ أو زرع بغير حرث وسقيٍ وعمل متكلاً على القدر، وهكذا أيضاً مَن يترك أهله وولده بلا نفقة ولا غذاء ولا سعي في ذلك مُتَّكِلاً على القدر، فكلّ هذا تضييع وإفراط وإهمال وتواكل .

أمّا مَن يقوم بالسبب ناظراً إليه معتمداً عليه غافلاً عن المسبّب معرضاً عنه فهذا توكّله عجز وخذلان ، ونهايته ضياع وحرمان، ولذا قال بعض العلماء: " الإلتفات إلى الأسباب شرك في التّوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكليّة قدح في الشرع، وإنّما التّوكّل والرّجاء معنًى يتألّف من مُوجب التّوحيد والعقل والشرع " .

إنّ التّوكّل مصاحبٌ للمؤمن الصادق في أموره كلّها الدّينية والدّنيوية، فهو مصاحب له في صلاته وصيامه وحجِّه وبرِّه وغير ذلك من أمور دينه، ومصاحب له في جلبه للرزق وطلبه للمباح وغير ذلك من أمور دنياه، فالتّوكل على الله نوعان :

1.توكلٌ عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه .

2.وتوكلٌ عليه في حصول ما يحبّه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والصلاة والصيام والحج والجهاد والدعوة وغير ذلك.

فهذه صفة المؤمنين الصّادقين ، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] .

******************************************

[1] رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

[2] رواه الترمذي (2517) ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (2044).

[3] رواه الترمذي (2344) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1911) .

[4] رواه البخاري (1523)


الموقع الرّسمي للشيخ وفّقه الله






رد مع اقتباس