عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 08 May 2015, 06:22 PM
أبو أنس عبد الله الجزائري أبو أنس عبد الله الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
الدولة: الجزائر المحروسة
المشاركات: 107
افتراضي

بورك فيكم، وقد جمعت ولخصت فيما مضى كليمات في هذا الباب، وهاهي دونكم.

قد اختلفت طرائق العلماء في تفسير الحـروف المقطعة في فواتح السور، ولهم في ذلك سبل تسلك وأبواب تطرق، وقبل الولوج في الخلاف فإنه يحسُن بالـنّبـيهِ الألمعيّ أن يَـعلَم أن الله وصف القرآن كلـّه بأنه محكم وبأنه متشابه، وجعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمّه؛ والإحكام والتـشابه الذي يخُـصّ بعـضه.
قال:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وإحكامه الذي يعمه بمعنى: « إتقانه بتمييز الصـدق من الكـذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره »، وقال أيضا: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ، فأخبر سبحانه أنه كلّه متشابه، ومعنى كونه متشابها: « أنه متماثل ومتناسب بحيث يصدق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر؛ بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته » وقل مثل ذلك في باب النهي والإخبار.

هذا والتشابه الخاص هو: « مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس إنه هو أو هو مثله وليس كذلك »، وأما الإحكام الخاص هو: « الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر »، وهذان المعنيان هما المُرادَان في قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.
وعلى هذا فالأحرف المقطعة أوائل السور قد اختلف فيها العلماء، هل هي من قبيل المتشابه أو المحكم على قولين؟

فالقول الأول: أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وقد نَقل هذا القول ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 210)، واختاره ابن حبان كما في "زاد المسير" (38) لابن الجوزي، والإمام ابن حزم في "إحكامه" (4/ 123، 124)، ومال إليه الشوكانيّ في "فتحه" (53)، وأبو حيان في "البحر المحيط" (1/ 158)، ونصره السيوطي في "إتقانه" (436) وطوائف من العلماء.

والقول الثاني: أنها مما تعلم دلالتها، وهو قول الجمهور فيما نقله ابن عطية في "المحرر الوجيز" (49 - 50) وصوّبهُ، ويمكن حصر أقوالهم المتنوعة في هذا الباب تحت ثلاثة أقسام:
· الأول: أنها رموز اقـتُـصّت من كَـلـمٍ أو جـمُلٍ، مثاله: "ألـم" فالألف إشارة إلى الأحد، واللام إلى اللطيف، والميم إلى الملك.
· الثاني: أنها حروف جُعلت أسماء وأفعالا، يعني: أسماء للسور، أو للقرآن، أو هي أسماء لله جل شأنه، وهذا الأخير بعيد!
· الثالث: أنها بمعنى الحروف، وإنما جيء بها لحِكم متعددة ومن أهمها: « أنها بيان لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع كونه مركبا من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ».

وهذا المختار عند جمع عظيم من المحققين من العلماء والقرّاء وأئمة اللغة، فهو قول حبر الأمة عبد الله بن عـباس وكثير من التابعين كما نقله الراغـب في "مقدمة جامعه" (142)، ونصره الزمَخشَريّ في "كشافه" (1/ 146) أتمّ نصرٍ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الـمِـزِّيّ كما نقله عنهما تلميذهما ابن كثير في "تفسيره" (1/ 37) وارتضاه قولا له، وذهب إليه العلامة ابن القيم والإمام الذهبيّ، ورجّحهُ العلامة الأمـين الشّـنقيـطيّ في "أضواء البيان" (2/ 167)، وابن عاشـور في "تحـريره وتنـويره" (1/ 216)، والبيضاويّ في "أنواره" (1/ 42)، وأبو السعود العـماديّ في "إرشاده" (1/ 21)، والثّـعلبيّ في "كشـفه" (1/ 137)، والراغب الأصفهانيّ في "مقدمة تفسيره" (105)، ورشيد رضا في "المنار" (1/ 122)، ومال إليه ابن باديس في "مجالسه" (287) ونقله السّمَرقَندِيّ في "بحر العلوم" (1/ 251) عن بعـضهم ولم يُسمّـه، وحكاه الرازي في "تفسيره" (2/ 7) عن المبرّد، ونقله القرطبي في "جامعه" (1/ 173) والزَّجَّاجُ والأَنبَاريّ في كتابه "الأضداد" (404) عن الفَرّاء وقُطرُب، وهو مذهب الخليل بن أحمد وأبي علي الفارسيّ وغيرهم من الأئمة.

ودليلهم في ذلك هو: « الاستقراء »، ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتُتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها غالبا عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه، والاستقراء حجة قويمة ومحجة مستقيمة كما هو مبسوط في كتب أصول الفقه.


رد مع اقتباس