عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21 May 2017, 01:52 PM
أبو عاصم مصطفى السُّلمي أبو عاصم مصطفى السُّلمي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2016
المشاركات: 607
افتراضي التّهذيب بين النّحل و الجُعَل

بـــسم الله الرّحمـــن الرحيـــم

الحمد لله وحده ، و الصّلاة و السّلام على من لا نبي بعده ، و على آله و صحبه و من تبعه . و بعد :
لا يزال الفرقُ ظاهرا بجلاء ، بين آثار العلماء و مُخلّفات الأدعياء و السّفهاء ، و ليس بخاف على أحدٍ سعيُ النّحلِ و الجُعَل لتحصيل أقواتها وأرزاقها ، فسعيٌ محمود ، و سعيٌ مجذود ـ و كلٌّ مُيسّرٌ لما خُلق له ـ و ليسَ يخفى على أحدٍ أيضا إلى ما يُحيلُ النّحلُ ما حصّل ، و إلى ما يَصير غذاء الجُعَل .
و إذا عُرفت الأسباب بطلت الأعاجيب ، فالنّحل يُنشّؤ في الشّمع و الرّحيق و يغتذي بالشّهد و الأعاسيل ، و الجعلان تُنشّؤ في البعر و غذاؤها النّتن و الرّجيع .
أهل العلم يكون نتاجهم حلو المطعم طيّب الرّيح ، لأنّهم غُذوا بالطيّب و المليح ، و بضدّ ذلك نتاج الأدعياء و غذاؤهم ، و لا أدّل على هذا من آثار الفريقين و مؤلفاتهم ، فالأوّلون كالنّحل و الآخرون كالجعلان ، فلتكن لك ـ أخي ـ بصيرةٌ إن كانت لك عينان .
فإنّك تجد للعالم الرّبانيّ الكلمة و الكلمتان ، و الوُريقة و الوُريقتان ، ينفع الله بها أمما و يُحيي بها آخرين ، و تجد لأضدادهم المجلّد و المجلّدان ، بل الخزانة و الخزانتان ، لا يكاد يرفع بها رأساً أقرب النّاس إليه وألوَطُهم (ألصقهم) به . فها هي كُليماتٌ بثّها الحسن البصري و مثلها نثرها الفضيل بن عياض ، و ها هي الأربعون النّوويّة ، و عمدة الأحكام المقدسية ، و من قريب رسائل المجدّد ابن عبد الوّهاب ، و كلّها غايةٌ في الاختصار و آية في الاستحضار ، أحيا بها الله جلّ و علا الصّغار و الكبار ، و لا تكاد تخلو منها مَحِلّة و لا دار .
و زُرِ المكاتب و الخزائن ، و استنطق رفوفَها ، تُنبيك عمّا في أحشاءها من كتب الزّور و الأشرار ـ حاشا كتب الحقّ و الأبرار ـ عفا عليها الزّمن و أخنى عليها الذي أخنى على لبد ، لا يعرف النّاس لها اسما ، و لا يحفظون لها رسما ، و لو كان الأمر إلى ذي لُبٍّ لما أبقى منها جسما ، و لأحال قراطيسها حمما و فحما .
يكونُ التّبر في الفلاة بغيره مشوبا ، فإذا سقط في كفّ الحاذق صار خالصا مضروبا ، و إذا التقطته شمال المتحذلق كان رمادا مجبوبا .
فالتّهذيب له أهلٌ ، به يُعرَفون ، و لهُ يَعرِفون ، تستحيلُ الجلاميد في أيمانهم ذهبا يكاد سنا نوره يُعشي الأبصار . فالتّهذيبُ : التّنقية
هَذَبَ الشيءَ يَهْذِبُه هَذْباً ، وهَذَّبه : نَقَّاه وأَخْلصه ، وقيل : أَصْلَحه . (لسان العرب)
فالمُهذّبون على الحقيقة هم المصلحون وهم أهل الإصلاح
الحكمة ضالة المؤمن :
سئلت اللجنة الدّائمة للإفتاء (ج 26/ ص 358) عن مقتضى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : « الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها يأخذها » وفي رواية: أنى وجدها أخذ بها ، وأوجه العمل بها واستخداماتها ؟
فأجابت بأنّ الحديث ضعيف جـدًّا، لا تصح نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسناده إبراهيم بن الفضل المدني ، وقد أجمع علماء الحـديث على تضعيفه .
وأما معنى الحديث فتشهد له عمومات النصوص، وهو أن الكلمة المفيدة التي لا تنافي نصوص الشريعة ربما تفوه بها من ليس لها بأهل ، ثم وقعت إلى أهلها ، فلا ينبغي للمؤمن أن ينصرف عنها ، بل الأولى الاستفادة منها والعمل بها من غير التفات إلى قائلها . (باختصار و تصرف)
أصدر مؤلف أمريكي اسمه "ديل كارنيجي" (1888 / 1955) كتابا بعنوان "دع القلق وابدأ الحياة" و كان الكاتب مديرا معهد تدريب بأمريكا . هذا الكتاب كان قد اطّلع عليه محمد ابن عبد الرحمن ابن ناصر السّعدي رحمه الله تعالى في بيروت ، لمّا كان مع والده حين كان في المستشفى يعالَج من ضغط الدّم ، فأعجبه الكتاب فاشتراه و أهداه للشيخ . فقرأ الكتاب كاملا وأعجب به أيضا وبمؤلفه وقال : إنه رجل منصف .
وكان للشيخ صديق عزيز عليه من أهل عنيزة و كان يعاني من مرض نفسي , وله سنين في بيروت يعالج من هذا المرض ولم تتحسن صحته , فأهداه الشيخ هذا الكتاب "دع القلق وابدأ الحياة" وقال له : أقرأ الكتاب فهو مفيد جدا .
ومن العجيب أن هذا الصديق بعدما قرأ الكتاب تأثر بما فيه وتحسنت صحته وذهب ما به من عوارض المرض , وطاب من داءه الذي يعاني منه . فأمر الشيخ بشراء نسخة ثانية من هذا الكتاب لكي تودع في مكتبة عنيزة التي أنشأها رحمه الله , فاشترى ابنه الكتاب , ولما رجع الوالد وضع الكتاب في المكتبة , وتمت اعارته الى كثير من طلبة الشيخ المشهورين .
ثمّ أرسل الشيخ من اشترى له أوراقا و أقلاما ، ذلك أنّ الشيخ عنّ له تأليف رسالة على ضوء كتاب " دع القلق وابدأ الحياة " , فهذّب الكتاب و نفى عنه خَبثه و خلّصه ممّا يشوبه ، فجاءت تلك الوريقات القليلة ، الجليلة القدر العظيمة النّفع , وقد سماها " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة " قال ابنه محمد : [ وهي تهدف الى تحقيق السعادة للانسان بالطرق الشرعية , وعلاج الاكتئاب والامراض النفسية المختلفة , ولله الحمد والمنة , فقد طبع من هذه الرساله في حياته وبعد مماته عشرات الطبعات لم نتمكن من حصر مجموعها , وقد وصل عدد المطبوع منها في واحدة من الطبعات أكثر من خمسين ألف نسخة وزعت بالمجان عن طريق جمعيات سعودية تعنى بالطب النفسي , ولا زال الطلب عليها متكررا من داخل المملكة وخارجها , وققد أشتهرت هذة الرسالة وذاع صيتها , وهذا والله أعلم من حسن قصد مؤلفها رحمه الله ] كتاب "مواقف اجتماعية من حياة الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى " لابنه محمد ص129 ومنه أخذت القصّة بتصرف غير مخلّ .
فنسج الشيخ على نفس المنوال بصبغة اسلامية خالصة ، مدعّمة بالنّصوص و الآثار، خالية من أيّ إحالةٍ للمؤلِّف و المؤلَّف ، أو استشهاد بكلام الفلاسفة و الكفّار . و هكذا كان الكتاب جُلمودَ صخر مجلّلا بالشّوائب و الأدران ، وكانت يمينُ الشّيخِ كفّ حاذقٍ من أهل التّهذيب و الإصلاح . بل حتّى أنّ المطّلع عليها ممن له دراية تامّة بالكتاب الأصل ، لا يرى ذاك من هذا ، و لا قريبا منه ، فسبحان الله ربّ العالمين .
ثمّ اشتغلت على نفس الكتاب أناملُ المتحذلقين ، فأساءوا من حيثُ ظنّوا أنّهم يُحسنون ، و أفسدوا من حيث ظنّوا أنّهم يُصلحون ، فجاءت صنائع شمائلهم ، تشيرُ إلى الكاتب و المكتوب ، و تُحيل إلى أقوال الفلاسفة و أرباب الإلحاد ، فاشتهرت أسماؤهم و شاعت مقالاتهم ، و صار المسلمون ينظرون إليهم على أنّهم الأساطين و الأركان و أنّهم من جملة الأكابر و الرّبانيّين ، كيف لا و قد أشار إليهم العلّامة فلان و الدّكتور فلان و فلان ، من ذوي الشّهادات العالية و أولي العرفان .
فإن أنكرتَ عليهم هذا الصّنيع ، و رددتَ عليهم هذا الفعل الشّنيع ، استشهدوا بكتاب الشّيخِ البديع . و ما علموا الفرق بين الضّليع و الرّقيع ، و لكن أين مراتع النّحل من حفر الرّجيع ؟!!
و ممّن أراد استباق السّعديِ على أتانٍ ظالعة ، و الشّيخُ على نجيبٍ طالعة ، فما بلغوا الغاية ، و لا رأوا الرّاية ، بل انتكسوا عند خطّ البداية ، ثلاثة كانوا كمن جاء يكحل عينا فأعماها .
جدّد حياتك و لا تحزن و استمتع بحياتك ، مصّنفاتٌ للغزالي و القرني و العريفي ، و أصغرها حجما أكبر من رسالة السّعدي بعشرات الأضعاف . و ليس منها كتاب بلغ أو قارب ـ و لو من طرف خفيّ ـ ما بلغته تلك الوريقات السّعدية . بل كان في ما خطّت أناملهم السّم الزّعاف و لُعابُ المنيّة . بل إنّك لا تكاد تمرّ على بضع صفحات حتّى تعلم أنّ هذا نسخة عن ذاك ، و قبسٌ منه ، وكأنّ بعضهم لم يزد على أن أضاف آية أوآيتين أو حديثا أو حديثين لكلّ باب ، فلم يهذّب شيئا ، وبقيت دار لقمان على حالها
و كأنّ الأمور انقلبت على أنصاف المتعلّمين ، فخلّصوا الشّوائب من تبرها ، فذرّوا التّبر و شذراته في الرّيح ، و سبكوا الشوائب و الأدران ، فعرضوها في مصنّفاتهم . فجاءت أقبح من الأصل المهذّب ، و الجنس المشذّب . و الدّليل أن الأصل أعجب الشيخ الصّالح رحمه الله ، و نظر العلماء إلى كتاب جدّد حياتك ، فجدّدوا استرجاعهم ، و نظروا في كتاب لا تحزن فأحزنهم ، و رأوا كتاب استمتع بحياتك فما استمتعوا برؤيته .
و إلى جنب هؤلاء الثّلاثة الكاتبة : سلوى العضيدان ، حيث جادت على المكاتب بنسخة أخرى من كتاب ديل ( و قد اتّهم عائض بأنّ كتاب لا تحزن ، قد سرق 90 % من مادّته من كتاب هكذا هزموا اليأس للكاتبة ـ بل قد اعترف بذلك ـ ) . وكان يكفيهم رسالة الوسائل ، و يسعهم ما وسع غيرهم ، و لكنّ بريق الشهرة و لمعان الصّفراء يعشي الأبصار ، ويُعمي البصائر .
فهذه رسالة الشّيخ الجليل ، على اختصارها و قلة صفحاتها ، خدمت بالشّرح و التعليق و التحشية من من الأكابر و طلبة العلم ، و شاع الثّناء عليها و الإشادة بمؤلفها ، و هذه ضرائرها منبوذة كذات جذام أو ذات وضح ، لا ينفخ فيها إلّا الإعلاميون و الرّعاع ، ممن ليس لهم في العلم قدم و لا باع ، بل يُحذّر منها العلماء و ينهون أن تشترى أو تباع .
فالنّحل و الرّحيق و الشّهد و العسل ، و البعر و الرّجيع و النّتنُ و الجُعَل
و ممّا يَحسُن أن يُلزّ في قَرَن إلى السّالف من القول أنّ العلماء وأولي العرفان ، يحتاطون لإخلاصهم و نواياهم ، و لو كان في ذلك ضياع الجهد و تلف المجهود ، فقد دفن العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ـ بعد بلوغه ـ ، نظما في أنساب العرب ، كان قد نظمه قبل البلوغ ، قال في أوّله :
سمّيته بخالص الجمّان **** في أنساب بني عدنان
فجاءت فريدة في بابها ثم ذهب بها إلى الصحراء و دفنها في الرمال ، في مكان لا يهتدى إليه ،لأنّه نظمها بنيه التفوق على الأقران ـ كما قال . فلامه مشايخه و قالوا : كان من الممكن تحويل النّيّة و تحسينها (انظر كناب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص:27)
وقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- لا يحبون الشهرة، ولا يحبون أن يذكروا مع محبتهم لظهور الحق، كان أيوب السختياني يقول: «ذُكِرتُ ولا أحب أن أُذْكَر»، وذُكِر عنه أنه إذا مشى يمشي في الطرقات التي لا يعرفه فيها أحد ، حتى قال بعضهم: «لا أدري كيف يهتدي لها»، وكان الإمام أحمد -رحمه الله عز وجل- يقول: «وددتُ لو كنتُ في شعب من شعاب مكة»، ويقول لابنه: «وددتُ لو لم يُنْسَبْ لأبيك من ذلك شيء، ولكني ابتليت بالشهرة»، فعدها بلاءً . و هذا أويس القرني يريد أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب أن يكتب له إلى عامله على اليمن فيقول رحمه الله : أكون في غبراء الناس أحب إلي .
أين هذا ممّن يُقيم النّدوات و يحشرُ النّاس و الصّحافة ، لتوقيع النّسخة المليون من كتابه المحزن ، بل يزعم أنّه بلغ من الملايين عشرا ، و أنّه أكثر كتاب عربيّ مبيعا . وأيم الله إنّه لأحقّ بالدّفن من أبيات الشّنقيطي رحمه الله .
قال إبراهيم بن أدهم: «ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة». وقال بشر بن الحارث: «مَا اتَّقَى اللهَ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ» . وقال أيضا : «إذا عُرفت في موضعٍ فاهرب منه ، وإذا رأيت الرجل إذا اجتمعوا إليه في موضعٍ لزمه ، واشتهى ذلك فهو يحب الشهرة». انظر لهذه النّقولات سير أعلام النّبلاء
قال تعالى : [[ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ]] . [القصص:83].
و الله الموفّق وهو الهادي إلى سواء السّبيل


أبو عاصم مصطفى بن محمد
السُّـــلمي
تبلبـــالة الأحد 24 شعبان 1438 هـ


التعديل الأخير تم بواسطة أبو عاصم مصطفى السُّلمي ; 17 Sep 2017 الساعة 02:22 PM
رد مع اقتباس