عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04 Apr 2014, 07:29 PM
أبو عبد العزيز سمير الوالي أبو عبد العزيز سمير الوالي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 125
افتراضي

أنوه الإخوة الأفاضل أنه صدر منا خطأ عند نقل تزكيات المشايخ لشيخنا العلامة محمد علي فركوس.. وقد صدر فيها خلط عن غير قصد و قد تم معالجة ذلك وتعديله و لله الخمد و ذلك وفق نصيحة الشيخ خالد حمودة و توجيهاته القيمة و قد إرتأينا أن ننقل بعض أقوال السلف و أهل العلم في الذين يتسرعون في إسقاط الأحكام و لا يتثبتون قبل الحكم الأشخاص وفق الأخطاء التي لا يعرفون إن كانت أخطاءا عن قصد أو غير قصد...


إن الاستعجال في إصدار الأحكام على الآخرين أمر ممقوت يعرض صاحبه للزلل والخطأ والوقيعة في الآخرين ، وهو مخالف أيضاً للمنهج الرباني الآمر بالتثبت والتبين والتبصر ، كما أنه بعيد عن طريقة السلف الصالح المبنية على التثبت في صغير الأشياء وعظيمها ، وفي علوم الدين والدنيا ، وفي العادات والعبادات .

فإذا تأملنا كتاب ربنا نجد أن الأمر بالتثبت قد ورد في آيات كثيرة منها:

{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .

وفي قراءة متواترة قرأ بها حمزة والكسائي وخلف {فتثبتوا} ، قال الإمام الشوكاني رحمه الله : "المراد من التبيُّن التعرف والتفحص ، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة ، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر" ، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} .

ومنها قوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .

بل شنع الله سبحانه وتعالى على المسترعين في نقل الأخبار والأقوال دون تثبت وتبين ، ودون تروٍّ ومشورة فقال تعالى : {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .

وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم طائفة المتسرعين في النقل دون تثبت بقوله : "بئس مطية الرجل زعموا" .

قال الإمام البغوي تعليقاً على هذا الحديث : "إنما ذم اللفظة لأنها تستعمل غالباً في حديث لا سند له ، ولا تثبُّت فيه ، إنما هو يحكى على الألسن ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتثبت فيما يحكيه والاحتياط فيما يرويه" .

وقال الإمام الخطابي رحمه الله : "وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا تثبت فيه ، وإنما هو شيء يحكى على الألسن وعلى سبيل البلاغ ، فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك ، فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة ، وقد قيل : الراوية أحد الكاذبين" .

وما أشبه من هذا حاله بمن ينقل معلوماته عن المجاهيل أو من التجمعات العامة ، فإذا سئل عن مصدر خبره قال : حدثني من لا أتهم ، أو أخبرني الثقة ، أو حدثني من لو كان البخاري حياً لجعله من شيوخه ، إلى غير ذلك من المبالغات والمجازفات ، وخلاصة القضية أن في نفسه قناعات مبنية على أوهام وأحقاد ، أراد إثباتها بهذه النقولات الهشة والأخبار الملفقة .

وبالمناسبة ، فإن هذا التوثيق غير مقبول عند الأئمة فإنهم قالوا : "إذا روى الثقة العدل في حديثه فقال : حدثني الثقة من غير تسمية له أو قال : حدثني من لا أتهم ، فهل يقبل هذا ويكتفى به عند المحدثين أم لا يقبل؟

الذي يقتضيه الإنصاف ويكون أبرأ للذمة وأمكن في العهدة أنه لا يقبل حتى يسميه ، لأنه لو كان هذا المبهم ثقة عند الراوي عنه فربما لو سماه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح ، ثم إن امتناعه عن تسميته ريبة توقع تردداً في القلب ، فلا يقبل إلا تسمية المروي عنه ، وهذا ما جنح له من الشافعية المتقدمين أبو بكر الصيرفي ، والماوردي والروياني من المحدثين الخطيب البغدادي وابن الصلاح والنووي والسيوطي وآخرون .

وقال صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" ، قال ابن حبان عند ذكر الخبر السابق : "في هذا الخبر الزجر للمرء أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم على اليقين صحته ثم يحدث به دون ما لا يصح" .

وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم للأمة معالم هذا المنهج في الجوانب التطبيقية من سيرته ، فما كان صلى الله عليه وسلم يتسرع في التخطئة ، بل كان يسأل عن الظروف الملابسة للخطأ من حيث الدافع ، وحالة المخطئ ، ولعل في المواقف الآتية ما يجلي هذه المعاني :

ما حدث لحاطب رضي الله عنه عندما كتب لكفار قريش عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم ، لما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل بالحكم عليه بل بادره بقوله : "ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟..." الحديث .

وروى النسائي رحمه الله عن عَبَّاد بن شُرَحْبيلَ رضي الله عنه قال : قدمت مع عمومتي المدينة ، فدخلت حائطاً من حيطانها ، ففركت من سُنْبُلِهِ ، فجاء صاحب الحائط فأخذ كسائي وضربني ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستَعْدِِي عليه ، فأرسل إلى الرجل فجاءوا به فقال : "ما حملك على هذا؟" فقال : يا رسول الله إنه دخل حائطي فأخذ من سبنله فَفَرَكَهُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما عَلَّمْتَهُ إذ كان جاهلاً ولا أطعمته إذ كان جائعاً ، اردُدْ عليه كساءَهُ" وأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَسْق أو نصف وسق .

وقد حدثت لعمر –رضي الله عنه- قصة رواها بنفسه فقال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقْرِئْنيهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساورُهُ في الصلاة ، فَتَصَبَّرتُ حتى سلم فَلَبَّبْتُهُ بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : كذبت ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قَرَأتَ ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقْرِئنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرسِلهُ ، اقرأ يا هشام" فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذلك أنزلت" ، ثم قال : "اقرأ يا عمر" ، فقرأت القراءة التي أقرأنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزلَ على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه" .

والذي نفيده من المواقف السابقة ما يلي :

- أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتعجل في قبول التخطئة والحكم بها بمجرد ما تنقل له .

_ أنه كان يحاول المتهم بالخطأ لمعرفة ظروفه ودوافعه .

_ على طالب العلم أن لا يستعجل بتخطئة من حكى قولاً يخالف ما يعرفه إلا بعد التثبت ، فربما يكون ذلك القول قولاً معتبراً من أقوال أهل العلم .

وسار الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان من خيار هذه الأمة على هذا المنهج ، قولاً وعملاً ، شعاراً وسلوكاً ، تنظيراً وتطبيقاً في كافة أمور حياتهم ، والآثار في هذا الباب أكثر من أن تحصر في هذا المختصر ، ولكن حسبي أن أورد طرفاً من ذلك لمن أراد السير على هذا الطريق ، والله الهادي إلى سواء سبيل .

فمن ذلك ما ثبت عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا : "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع" .

ولما طلب عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري أن يأتيه على ما يقول بشاهد عندما روى له حديث الاستئذان ثلاثاً في القصة المشهورة قال له عمر : "أما إني لم أتهمك ولكن أحببت أن أتثبت" .

قال الإمام الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ عن عمر بن الخطاب : "وهو الذي سنَّ للمحدثين التثبت في النقل ، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب" .

فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم ، وهم أزكى وأطهر مجتمع وجد على الأرض يرسمون للأمة مبدأ التثبت بأفعالهم قبل أقوالهم .

وبهذا الفقه جاء التابعون ، وعلى خطاه ساروا .

فهذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة يجلي لنا هذه القضية بقوله : "اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ، ولا يكون إماماً أبداً وهو يحدث بكل ما سمع" .

وقال عبد الرحمن بن مهدي : "لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع" .

إذاً فقد ظهر لك أن من معالم هذا المنهج ألا يكون المسلم زاملة أخبار ، ووكالة أنباء ، وبوق نقل للشائعات، وما سمعته أذناه لا يقر له قرار حتى تنفرج عنه شفتاه كشأن من تعرفون؟!!

ويبين الإمام النووي رحمه الله هذه المعالم بقوله تعليقاً على الآثار السابقة : "فيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان ، فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب ، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن" .

وقال أيضاً : "إذا حدث بكل ما سمع كثر الخطأ في روايته فترك الاعتماد عليه والأخذ عنه" .

ويبين الإمام الطبري رحمه الله أن هذه الخصلة من صفات الموقنين أهل الإيمان الذين أنعم الله عليهم بذلك فيقول : "وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون ، لأنهم أهل التثبت في الأمور ، والطالبون معرفة حقائق الأشياء ، على يقين وصحة" .

وقال الحسن البصري رحمه الله : "المؤمن وقَّاف حتى يتبين" .

وقد قيل : "من كانت فيه ثلاث خصال لم يستقم له أمر : التواني في العمل ، والتضييع للفرص ، والتصديق بكل خبر".

بل يرى الحافظ ابن حجر رحمه الله أن هذا الأمر من لوازم العقلاء ، ويحذر من التساهل في ذلك تحذيراً من العواقب الوخيمة التي تلحق بالقائل والمقول فيه فيقول : "إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل ، فلا يجزم إلا بما يتحققه ، ولا يكتفي بالقول الشائع ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح ، وإن كان في الواقعة أمر فادح سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفاً في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه ، ويكتفي بالإشارة لئلا يكون قد صدر منه فلتة ، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفاً بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم فلا يرفع الوضيع ولا يضع الرفيع" .

ويعد الحافظ ابن حبان عدم التثبت من صفات الحمقى الذين يجب الابتعاد عنهم إذ يقول : "من علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدها ممن خفي عليه أمره : سرعة الجواب ، وترك التثبت ، والإفراط في الضحك ، وكثرة الالتفات ، والوقيعة في الأخيار ، والاختلاط بالأشرار" .

فيا ليت من جنَّد نفسه للوقيعة في أهل الخير والفضل ، دون تثبت ومستند يعي ذلك!!

وإن عدم التثبت قد يؤدي بالشخص للوقوع في الكذب المحرم على الآخرين ، والافتراء عليهم وهو من الظلم المنهي عنه سواء كان يشعر الناقل بذلك أم لا .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "فالكذب على الشخص كله حرام ، سواء كان الرجل مسلماً أو كافراً ، براً أو فاجراً ، لكن الافتراء على المؤمن أشد ، بل الكذب كله حرام" .

ويقول أيضاً : "والظلم محرم في كل حال ، فلا يحل لأحد أن يظلم أحداً ولو كان كافراً" .

ويرفع علماؤنا المعاصرون الراية ، ويضربون على الوتر نفسه ، ويسيرون على خطى السابقين الأخيار مرشدين ومحذرين ، فالفقه هو الفقه والمنهجية هي المنهجية .

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : "من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض ، ثم يبني عليه السامع حباً وبغضاً ، ومدحاً وذماً ، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة ، وكم أشاع الناس عن الناس أموراً لا حقائق لها بالكلية .. فالواجب على العقل التثبت التحرز وعدم التسرع ، وبهذا يعرف دين العبد ورزانته وعقله" .

وإن مما يساعد المسلم على التثبت والتبين أن يسلك منهج السلف في ذلك المبني على أمور منها:

1- طلب الإسناد عند سماع المنقول :

فالإسناد من خصوصيات هذه الأمة التي امتن الله به عليها دون سائر الأمم ، قال الحافظ بن الصلاح : "أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة ، وسنة بالغة من السنن المؤكدة" .

والمقصود بطلب الإسناد في هذا الباب معرفة القائل ومصدر الخبر عند تضارب الشائعات ، ليرد الإنسان عن نفسه التهم ، ويسكت المفتري ، ويتعرى المروجون للأباطيل ، فتسقط الثقة بأخبارهم عند عقلاء القوم ، الباحثين عن الحق والإنصاف .

لذا توافرت النصوص عن سلفنا الصالح رحمهم الله في الحث على لزوم الإسناد والاهتمام به والمحافظة عليه , فمن ذلك :

قول عبد الله بن المبارك رحمه الله : "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، فإذا قيل له من حدثك بقي" أي أفحم فظل ساكتاً لا يستطيع الجواب .

فتأمل رحمك الله في قوله "لقال من شاء ما شاء" فقد عد الإسناد لجاماً للثرثارين ، وباباً موصداً على المتسرعين ، وحصناً منيعاً في طريق المرجفين ، وبدونه تصبح الأمور خبط عشواء ، وتكون أعراض المسلمين كلأ مباحاً لأصحاب الأهواء ذوي النفوس المريضة ، والمقاصد السيئة ، اللهم سلِّم .
وقال سفيان الثوري : "الإسناد سلاح المؤمن ، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل" .

واشترط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تسمية القائل والناقل ، لإثبات صدق الخبر حيث قال : "من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسمِّ القائل والناقل ، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب" .

هذا وإن من يبتلى بالكلام في الناس مع عدم التثبت مآله إلى الندامة والحسرة ، ومهدد بعقوبة في الدنيا قبل الآخرة .

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى : "ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت ، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم . ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره فتعرض على نفسه الأحوال ، وكأنه شاور ...

وأشدُّ الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة خصوصاً فيما يوجبه الغضب ، فإنه بنزقه طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم ، فالله الله ، التثبت التثبت في كل الأمور في عواقبها ، خصوصاً الغضب المثير للخصومة" .

بل صرَّح الإمام أحمد بما هو أوضح من ذلك حيث قال : "ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه ، قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس كان يروي عن الأعمش والناس وكانت له مجالس ، وكان صحيح الحديث ، إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد ، فهذب حديثه وذِكْرُه.

وفي رواية الأثرم قال : إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحداً يذكره ، وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر فدعا عليه ،قال أحمد : فأراه استجيب له .

قال ابن مفلح : والمراد بذلك والله أعلم عدم التثبت والغيبة بغير حق" .

وقال أبو زرعة : كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه ، وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم ، وكل من يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه .

فهل بعد هذه النصوص والضوابط والتحذيرات من أئمة السلف يطلق عاقل العنان للسانة لتفري في أعراض المسلمين ، لحجة واهية ، أو تأويل متكلف ، أو سوء ظن أو هوى غلاب ، أو طمع في الدنيا؟ لا أظن ذلك كذلك .

ورحم الله القائل :

لا ترسلنَّ مقالة مشهورة *** لا تستطيع إذا مضت إدراكها
لا تبدينَّ نميمة نبئتها *** وتحفظن من الذي أنباكها

2- العلم بحال الناقل :

إن من القواعد المعتبرة قبل قبول الخبر من ناقله البحث عن حاله من حيث العدالة والضبط وعدمها ، فإن توفرا قبل ، وإن اختل رُدَّ على قائله ، ولذلك قال الخطيب البغدادي رحمه الله : "إن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصادق المأمون على ما يخبر به" .

لذا ينبغي التثبت من اجتماع الأمرين في الناقل قبل قبول خبره وهما :

1- العدالة : امتثالاً لقوله تعالى : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} ، وقوله تعالى : {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} . والكافر والفاسق ليسا من أهل الرضى في هذا الشأن ، وقد شدَّد الأئمة رحمهم الله في العدالة ، من حيث شروطها ، وضوابطها وقوادحها ، حتى أن من اطلع على ذلك داخله الشك في عدم وجود العدل المقبول عندهم في هذه الأعصار . فلم يكتفوا باشتراط الإسلام والعقل ، والتمييز في الناقل بل زادوا على ذلك أن يجتنب الكبائر وألا يصر على الصغائر ، وأن يبتعد عن خوارم المروءة ،والمقصود بها ألا يقع الإنسان عامداً في أمر يستنكف عنه أمثاله وأقرانه .

2- الضبط : وهو الشرط الثاني في الراوي ليكون ثق في خبره ، والمقصود بالضبط أن يكون الناقل متيقظاً غير مغفل ، حافظاً إن حدث من حفظه ، ضابطاً لكتابه إن حدث من كتابه ، وإذا شارك الرواة المتقنين لم يخالفهم .

فقد يكون الرجل عدلاً مأموناً في دينه لكنه غير ضابط ، إما لسوء حفظ ، أو كثرة وهم ، أو غفلة أو نسيان أو نحو ذلك .

وتأمل هذه النقولات عن السلف ليظهر لك هذا الأمر جلياً وتستيقن في قرارة نفسك أنه فقه قديم:

قال ربيعة بن عبد الرحمن : "إن من إخواننا من نرجو بركة دعائه ، ولو شهد عندنا بشهادة ما قبلناها" ، فليست العدالة وحدها كافية لقبول الخبر ، إذا كان الناقل ينسى ما يسمعه ، أو يحدث به على غير الوجه الذي صدر كما قال الأول :

أقول له سعداً فيسمعها بكراً *** ويحفظها زيداً ويكتبها عمرا

وقال أبو الزناد : "أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم شيء من الحديث يقال : ليسوا من أهله" .

أما إمام دار الهجرة فإنه يبين هذه المسألة غاية البيان فيقول : "لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ عمن سواهم ، لا يؤخذ من رجل صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ، ولا من سفيه معلن بالسفه وإن كان من أروى الناس ، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة ولا يعرف ما يحدث" .

وثمة أمور نص أئمتنا أنه لا يقبل فيها جرح الجارح ، ويقاس على ذلك ناقل الخطأ ، فمن ذلك :

أ‌- أن يكون الناقل مجروحاً في نفسه : قال الحافظ ابن حبان : "من المحال أن يجرح العدل بكلام المجروح" .

فهو في نفسه متهم ، فكيف يتحامل على الأخيار الذين هم أوثق منه؟!

وإليك هذه الأمثلة عن أئمتنا لتتضح القضية ، وترسخ القاعدة :

في ترجمة عمرو بن سليم الزرقي ، نقل الحافظ ابن حجر أن ابن خراش ضعفه .

قال الحافظ : "ابن خراش مذكور بالرفض والبدعة فلا يلتفت إليه".

وردَّ أيضاً تضعيف ابن قانع لمبشر بن إسماعيل الحلبي بأن ابن قانع ليس بمعتمد . وفي ميزان الاعتدال في ترجمة السري بن يحيى ، وهو ثقة وثقه أحمد ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة وجمع . قال الذهبي : قال أبو الفتح الأزدي : حديثه منكر ، فآذى أبو الفتح نفسه ، وقد وقف أبو عمر ابن عبد البر على قوله فغضب ، وكتب بإزائه : السري بن يحيى أوثق من مؤلف الكتاب مائة مرة ، يعني الأزدي .

ومن ذلك أن الحافظ ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب – بعد ما نقل عن الأزدي قوله فيه : "غير مرضي" – قال : "لم يلتفت أحد إلى هذا القول ، بل الأزدي غير مرضي" .

وذكر الإمام ابن مفلح في الآداب الشرعية أن أبا قتادة عبد الله بن واقد تكلم في بعض الثقات فتعقبه ابن مفلح بقوله : "أبو قتادة ضعيف متروك ...، ومن هذا حاله لا يحل له أن يتكلم في الجرح والتعديل لا سيما بغير إنصاف فيمن عظمه الأئمة وأثنوا عليه واتفقوا عليه ...إلخ .

وحدث أحمد بن علي الأبار فقال : "رأيت بالأهواز رجلاً خف شاربه ، وأظنه اشترى كتباً وتعبأ للفتيا ، فذكروا أصحاب الحديث فقال : ليسوا بشيء ، وليس يسوون شيئاً ، فقلت له : أنت لا تحسن تصلي . قال : أنا؟ قلت : نعم ، قلت : أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت للصلاة ورفعت يديك؟ فسكت ، فقلت : وأيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت ، فقلت : أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت ، فسكت ، فقلت : مالك لا تتكلم ، ألم أقل إنك لا تحسن تصلي ، أنت إنما قيل لك تصلي الغداة ركعتين ، والظهر أربعاً فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث ، فلست بشيءٍ ولا تحسن شيئاً" .

فهل يقبل عاقل منصف بعد ذلك قدح مجروح العدالة في أهل العلم والفضل؟! لا أظن ذلك سيما إذا صاحبه سوء قصد وفساد طوية وغلبة هوى .

ب- الاحتراز من قبول قدح القرين في قرينه المعاصر له:
فالمعاصرة توجب المنافرة في الجملة ، والأقران المتعاصرون يقع بينهم من الحسد والغيرة ما يحول دون العدل والإنصاف في الغالب ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لا تقبلوا أقوال الفقهاء بعضهم على بعض ، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة" .

وقال مالك بن دينار : "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فلهم أشد تحاسداً من التيوس" .

وهذه القضية واضحة لكل منصف متجرد عن الهوى ، والواقع يشهد لها ، وكتب التراجم تحمل بين طياتها جملاً من هذا الضرب ، ولهذا لم يعتد الأئمة بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعض .

قال الإمام الذهبي في ترجمة عفان الصفار : "كلام النظير والأقران ينبغي أن يتأمل ويتأني فيه" .

ويقول أيضاً : "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة ، أو لمذهب أو لحسد ، وما ينجو منه إلا من عصم الله ، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس ، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا" .

ويقول الحافظ ابن حجر : "إن كلام الأقران غير معتبر في حق بعضهم بعضاً إذا كان غير مفسر" ، وهذه القاعدة من قواعد العدل والإنصاف التي امتثلها علماؤنا في النواحي التطبيقية تنبيهاً لمن يأتي بعدهم .

قال الحافظ الذهبي في ترجمة محمد بن إسحاق المعروف بابن منده الأصبهاني : "أقذع الحافظ أبو نعيم في جرحه لما بينهما من الوحشة ، ونال منه واتهمه فلم يلتفت إليه لما بينهما من العظائم نسأل الله العفو ، فلقد نال ابن منده من أبي نعيم وأسرف أيضاً" .

وقال في ترجمة أبي الزناد عبد الله بن ذكوان : "لا يسمع قول ربيعة فيه ، فإنه كان بينهما عداوة ظاهرة" .

قال السبكي رحمه الله : "... وإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة والثوري ، أو بين مالك وابن أبي ذئب ، أو بين أحمد بن صالح والنسائي ، أو بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وهلم جرا إلى زمن العز بن عبد السلام والتقي ابن الصلاح ، فإنك إن شغلت بذلك خفت عليك الهلاك ، فإن القوم أئمة أعلام ولكل منهم محامل ، وربما لم نفهم بعضها ، فليس لنا إلا الترضي عنهم والسكوت عما جرى بينهم" .

ولعل من القرائن التي يعرف بها أن كلام القرين في قرينه هو من باب الحسد والتحامل لا من باب العدل والإنصاف ما يلي :

- الغضب الشديد ساعة صدور كلام العالم في آخر :

قال ابن عبد البر : "وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا ، ولكن أهل العلم والميزان لا يلتفتون إلى ذلك ؛ لأنهم بشر يغضبون ويرضون ، والقول في الرضا غير القول في الغضب ، ولقد أحسن القائل : لا يعرف الحلم إلا ساعة الغضب" .

- وجود المنافسة في البلد أو التخصص العلمي :

عليه يحمل طعن ابن أبي ذئب على الإمام مالك فإنهما جميعاً كانا عالمي المدينة في زمانهما" .

- الاختلاف المذهبي :

وهذا واقع بين العلماء ، فقد يكون اختلاف المذهب سبباً في الطعن ، قال ابن عدي في كلامه على أبي بشر الدولابي : "هو متهم فيما يقوله في نعيم بن حماد لصلابته في أهل الرأي" .

- وجود الإحن والشحناء والمخاصمات :

قال الإمام الذهبي : "لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر ، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينه وبينه شحناء وإحنة ، وقد علم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به ، لا سيما إذا وثق الرجل جماعة ، يلوح على قولهم الإنصاف" .

فقد ظهر مما سبق أن الواجب على المسلم أن يتأنى ويتبصر عند سماع تخطئة أو رد من عالم على آخر ، أو من أحد طلبة العلم على أخيه ، ولا يتعجل في قبول ما يصدر من ذلك ، وينبغي له أن يسمع وجهة الطرفين ، فربما يكون الآخر قد فقئت عيناه جميعاً ، فإذا ظهر له أن للحسد نصيباً فيما صدر ، وأن القضية من قبيل كلام الأقران المتعاصرين بعضهم في بعض فليتوقف عند ذلك ، ويعامل كل طرف بما هو أهله دون النظر لما يثار وينقل ، وليمتثل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .

على أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها ، فقد يكون كلام القرين في قرينه من أوثق ما يقبل ، وذلك إذا خلا عن تعصب وحسد ، واقترن بالبينة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، ولم يكن ثمة تحامل وأيد ذلك العقلاء المنصفون ، فعند ذلك يقدم كلام القرين على غيره ؛ لأنه شاهد الواقعة وعاصرها .

قال الإمام الشافعي : "وأما الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول : كفُّوا عن حديثه ، لأنه يغلط أو يحدث بما لا يسمع ، وليست بينه وبين الرجل عداوة فليس هذا من الأذى الذي يكون به القائل لهذا فيه مجروحاً عنه لو شهد بهذا عليه ، إلا أ، يعرف بعداوة له فترد بهذه العداوة لا بهذا القول" .

3- العلم بحال المنقول فيه :

والأصل في هذا الأدلة الشرعية الواردة في تقدير أهل الفضل والعلم ، وإنزالهم منازلهم ، فقد فقه أئمتنا هذه القضية فتوقفوا في قبول كثير من التهم نظراً لحال المنقول فيه ، وإن قبلوا شيء من ذلك غمروه في بحر حسناته كما سيأتي .

قال أبو عمر ابن عبد البر القرطبي : "... هذا باب غلط فيه كثير من الناس وضلَّت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك ، والصحيح في هذا الباب : أن من صحَّت عدالته وتثبت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم ، لم يُلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر . وأما من لم تثبت إمامته ولا عُرفت عدالته ، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته: فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه .

والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماماً في الدين قول أحد من الطاعنين : إن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه ، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه ..." .

قال الإمام السبكي :"والحذر الحذر من هذا الحسبان ، بل إن الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته ، وكثر مادحوه ومزكوه ، وندر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة ، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة ، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون" .

فمن الأمثلة على ذلك:

أجمع النقَّاد على توثيق قيس بن أبي حازم حتى قالوا عنه : "كاد أن يكون صحابياً" ، إلا أن بعض النقاد تكلموا فيه فقال الإمام الذهبي : "أجمعوا على الاحتجاج به ، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه ، نسأل الله العافية وترك الهوى" .

ولما أورد العقيلي علي ابن المديني الإمام الحجة الحافظ في الضعفاء قال الذهبي : "ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع ...، ولو تركت حديث علي وصاحبه محمد وشيخه عبد الرزاق وعثمان بن أبي شيبة ...، لغلقنا الباب ، وانقطع الخطاب ولماتت الآثار واستولت الزنادقة ولخرج الدجال ، أفمالك عقل أي عقيلي ، أتدري فيمن تتكلم ...، كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات ، بل أوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك ...إلخ" .


وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام الشافعي – رحمه الله - : "ونال بعض الناس منه غضاً فما زاده ذلك إلا رفعة وجلالة ، ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى ، وقلَّ من برز في الإمامة ورَدََّ عل من خالفه إلا عودي ، نعوذ بالله من الهوى" .

وقال أيضاً في ترجمة الفضيل بن عياض – رحمه الله - : "قلت : إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج ومثل الفضيل يُتكلم فيه ، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله ، لم يضره ما قيل فيه ، وإنا الكلام في العلماء يفتقر إلى وزن بالعدل والورع" .

وقال الإمام السبكي: "عرفناك أن الجارح لا يقبل منه الجرح وإن فسَّره ، في حق من غلبت طاعته على معاصيه ، ومادحوه على ذاميه ، ومزكوه على جارحيه ، إذا كانت هناك منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء أو غير ذلك" .

ولك بعد ذلك أن تعجب من تطاول غلمان صغار على أفاضل أفنوا حياتهم في خدمة الدين ، وقضوا أعمارهم في درب الدعوة والجهاد ، فما مثلهم وهؤلاء إلا كما قال الأول :

كناطح صخرة يوماً ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

وقول الآخر:

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه *** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

إن هذا الضرب من الشباب الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام لا يضرون إلا أنفسهم ، ولا تكون الدائرة إلا عليهم كما قال ابن ناصر الدين : "لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة ، ومن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب" .

ورحم الله إبراهيم بن أدهم إذ يقول : "كنا إذا رأينا الشاب يتكلم مع المشايخ في المسجد أيسنا من كل خير عنده" ، أي يناظرهم ويجادلهم ، فإذا كان اليهود والنصارى والبوذيون يجلُّون ويقدرون علماءهم إلى درجة التقديس ...

أفلا يليق بنا أن نحترم علماءنا وهم ورثة الأنبياء؟!!!

وهل نقبل بعد ذلك قدح الصغار في الكبار ؟!

وكلام القاعدين في المجاهدين؟

لا أظن عاقلاً يقبل ذلك .

ولله در الإمام ابن جرير عندما يقول : "لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ، ثبت عليه ما دعي به ، وسقطت عدالته ، وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار ، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه" .

وقال الإمام الذهبي رحمه الله : "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفور له ، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" .

وقال في ترجمة الإمام ابن خزيمة – رحمه الله - : "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه ، وتوخيه لاتباع الحق – أهدرناه وبدعناه ، لقل من يسلم من الأئمة معنا رحم الله الجميع بمنه وكرمه" .

4- العلم بطبيعة الخطأ المنقول:

من القواعد المعتبرة أن التخطئة للآخرين ينبغي أن تكون مبنية على الدليل الشرعي مع وضوح البينة ، ولا ينبغي أن يصدر ذلك عن جهل أو أهواء وأمزجة .
إذا تقرر هذا فعندما يُنْقل خطأ عن شخص ما ، عالم أو غير عالم ، تتوارد على الذهن السليم احتمالات شتى ، من ذلك أن يكون الخطأ غير خطأ عند التحقيق ، فإن البعض قد يخطئ الآخرين بما يظنه خطأ ، وقد أورد أئمة الجرح والتعديل في مصنفاتهم فصلاً عمن جرح غيره بما ليس بجارح .

ومن ذلك ما بلغ الشافعي رحمه الله أن رجلاً آخر فسأله عن السبب فقال : رأيته يبول قائماً ، قيل له : وما في ذلك ما يوجب الجرح؟ فقال : لأنه يقع الرشش وعلى ثوبه ثم يصلي ، فقيل له : هل رأيته يصلي؟ قال : لا ، ولكن أظنه سيفعل .

ومن ذلك أن شعبة بن الحجاج ترك الرواية عن رجل فقيل له : لم تركت حديث فلان؟ فقال : رأيته يركض على برذون فتركته ، ومن المعلوم أن هذا ليس بجرح موجب لتركه .

ومن ذلك أن الحكم بن عتيبة سئل : لِم لم ترو عن زاذان؟

قال : كان كثير الكلام .

فإذا كانت هذه الأمور لم تقبل عند أئمة الجرح والتعديل ففي غير رواة الحديث من باب أولى ؛ لأن رواية الحديث أشد تحرزاً من غيرها .

وضرب آخر يخطئ غيره بحسب فهمه ، والأفهام تتفاوت فقد يكون فهم فهماً غير صحح كما قيل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

أو يكون جاهلاً بحقائق أقوال الناس وعدم فهمها على وجهها ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - : "وكثيرٌ من الناقلين ليس قصده الكذب ، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم ، وسائر ما به يُعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ، ويتعذر على بعضهم" .

وقال السبكي رحمه الله : "فكثيراً ما رأيت من يسمع لفظةً فيفهمها على غير وجهها ، فيُغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره واستنَّ بسنته ... مع أن المؤلف لم يُرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل" .

وقد تكون التخطئة للآخرين في المسائل الخلافية الاجتهادية التي يكون الخلاف فيها سائغاً ، وإنما يخطئ غيره في هذه المسائل أحد رجلين : رجل جاهل بقضايا الخلاف ، واختلاف وجهات النظر ، واجتهادات الأئمة فهو كما قال سحنون بن سعيد : "يكون عند الرجل باب واحد من أبواب العلم فيظن العلم كله عنده" .

ولقد رأينا من يتطاول على غيره ويتهمه بالبدعة والفسوق ، ولو سألته عن فروض الوضوء وأركان الصلاة وشروط لا إله إلا الله ما أجابك بحرف من ذلك .

بل لو سألته عن معنى البدعة والفرق بينهما وبين الفسوق لما أجاب .

ورجل آخر احتكر الصواب فشعاره : قولي صواب لا يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب .

ولو تأملنا أقوال الأئمة في هذه المسألة لوجدنا فيها الغنية فمن ذلك :

قال سفيان الثوري : "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه" .

وقال أيضاً : "ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به" .

وقال الإمام أحمد : "من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم" .

ويؤكد هذا الإمام النووي بقوله : "إن المختلف فيه لا إنكار فيه ، ولكن إن ندبه على وجه النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق" .

وقال ابن قدامة المقدسي : "لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه فإنه لا إنكار على المجتهد" .

وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في جامع العلوم والحكم عند شرحه لحديث "من رأى منكم منكراً فيلغيره...":

"والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعاً فأما المختلف فيه فمن أصحابنا من قال لا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً..." .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه - : "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" .

وقال أيضاً : "إن ما فيه خلاف إن كان الحكم المخالف يخالف سنة أو إجماعاً وجب الإنكار عليه وكذلك يجب الإنكار على العامل بهذا الحكم وإن كانت المسألة ليس فيها سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فإنه لا ينكر على المخالف لرأي المنكر ومذهبه" .

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر كتاب الروح "والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع ،أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله على رسوله وحكم به بين عباده وهو حكمه الذي لا حكم سواه .

وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها ، فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله ، بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله ، ولم يلزموا به الأمة ، بل قال أبو حنيفة : "هذا رأيي فمن جاءني بخير منه قبلناه" ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف وغيرهما مخالفته فيه"

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته إلى علماء مكة : "... ثم اعلموا وفقكم الله إن كانت المسألة إجماعاً فلا نزاع ، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد" .

فقط ظهر مما سبق أن المسائل الخلافية الاجتهادية لا إنكار فيها .

على أنه ينبغي التنبيه في هذه المسألة لقضية مهمة وهي أن بعضاً من الناس يفهم هذه القاعدة على إطلاقها فيقول : لا إنكار في المختلف فيه ، وهذه قاعدة موسعة وضع لها الأئمة ضوابط وقيوداً كي لا يجيرها أهل الزيغ والأهواء والضلال ويستخدموها من أجل نشر مذاهبهم الضالة ، فمن تلك القيود:

1- أن المبتدع لا يدخل في هذه القاعدة بل يجب الإنكار عليه وبيان بدعته على قدر الاستطاعة سواء كانت بدعته في الأصول أو الفروع شريطة ثبوت بدعته بالأدلة الشرعية ، وأن تقام عليه الحجة ويصر عليها .

2- أن من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه إما لهوى في نفسه أو إرضاءً لغيره أو نحو ذلك فإنه يعامل بما يعامل به أهل البدع من وجوب الإنكار والهجر والتأديب ونحو ذلك .

3- أن من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية فإنه يجب الإنكار عليه بالطريقة التي تناسب حال الفعل ، وبما يؤدي إلى تحقيق الغرض من الإنكار ، وقد ذم شيخ الإسلام المنحرفين عن منهج الأئمة الذين يتمسكون بالأقوال المرجوحة .ا.هـ.

وقد يكون مخطئاً لكنه معذور في ذلك إما لكونه جاهلاً يحتاج إلى تعليم كما حدث في قصة معاوية بن الحكم السلمي عندما تكلم في صلاته كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزجره ولم يعبس في وجهه ولم يشتمه بل قال له : "... إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" .

فالجاهل يحتاج إلى تعليم ، وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان ، والغافل يحتاج إلى تذكير ، والمصرّ يحتاج إلى وعظ ، فلا يسوغ أن يسوى بين العالم بالحكم والجاهل به في المعاملة والإنكار ، بل إن الشدة على الجاهل كثيراً ما تحمله على النفور ورفض الانقياد بخلاف ما لو علّمه أولاً بالحكمة واللين ؛ لأن الجاهل عند نفسه لا يرى أنه مخطئ ، فلسان حاله يقول لمن يُنكر عليه : أفلا علمتني قبل أن تهاجمني .

وقد يكون المخطئ لم يبلغه الدليل .

أو بلغه لكن لم يثق بقائله .

أو بلغه ونسيه .

أو بلغه وفهم منه خلاف المراد .

أو بلغه وهو منسوخ ولم يعلم بالناسخ .

أو يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع .

إلى غير ذلك من الأسباب التي نص عليه الأئمة .

وبالجملة فإن التثبت دليل تقوى الرجل وخوفه من الله تعالى ، ولذلك كان السلف يمدحون المتثبت المتوثق في أمور الحكم على الأشخاص ، قال الإمام أحمد بن حنبل : "ما رأيت رجلاً أوزن بقوم من غير محاباة ، وأشد تثبتاً في أمور الرجال من يحيى بن سعيد" .

وبناءً على ما سبق نلحظ أن التثبت سنة جارية في كل حال ، إلا أنه يتأكد في حالتين :

الأولى : وجود قرينة تشكك في الخبر ، مثل : فسق القائل أو غرابة القول أو كونه مناقضاً لأصل تأكد وثبت بدليل قاطع .

الثانية : وقوع الفتن والشرور ، واضطراب الأحوال وتبلبل الأذهان ، فإن ذلك إذا وقع في زمان ما أوجب التثبت والتبين لما يستدعيه زمن الفتن والشرور من كثرة الكذب والافتراء .

و أخيرا إن هذا هو حال من لا يرجع إلى أهل العلم ...
الذين يحكمون على الناس بغير حق فالأولى بهم أن يرجعوا إلى مشايخهم و أن يتبعوا الحق و لو كان على خلاف أهواءهم
ولهذا مما هو متقرر في أصول أهل السنة والجماعة أنه ما من أحد مهما علت منزلته في الإمامة إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم وإننا مأمورين بإتباع هديه صلى الله عليه وسلم وإتباع سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم .

رد مع اقتباس