عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 31 Aug 2017, 05:20 PM
أبو عمر محمد أبو عمر محمد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2015
المشاركات: 176
افتراضي وقفُ أهل السنَّة الأخيار عند قوله تعالى: "وربُّك يخلقُ ما يشاءُ ويختار"

بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده أمّا بعدُ :
فإنّ الوقف و الابتداء أحد ركني علم التجويد و الترتيل ، بمعرفته و إحكامه يكمل تزيين تلاوة آي التنزيل ، و التغني بالقرآن الذي يحبه الرب الجليل ، و أيضا يجتنب القارئ كل وقفٍ او ابتداء يغير المعنى أو يحيل فالعلاقة متينةٌ ووطيدة ٌ بين نوع الوقف و معنى الآية ،و معلوم أن التأويل الصحيح لكتاب الله هو الفرقان بين طريقة السلفيين و بين سبل المبتدعين فبان بهذا فضله و ظهرت أهميته

ولمّا كان هذا الباب من أبواب العلم بهذه الأهمية في توجيه معاني القرآن فقد ولجه أهل البدع لتمرير معتقداتهم ومذاهبهم ذلك أنّ القوم ماتركوا سبيلا يردون به أدلة أهل الحق إلا سلكوه
و لمّا كان القرآن ثابتا بالتواتر لا يماري في هذا مسلم استعملوا في ردّه طرقا شتى و المقصود هنا التحيُّل على لفظه و تلاوته لا على معناه لأنّ أهل الأهواء قد تفنّنوا في تحريف معناه الذي أراده الله

فمن صور التحيُّل للفظه : محاولة ابتداع قراءة لا يعرفها الأئمة إما بتغيير إعراب كما فعل بعض الجهمية أو بزيادة حروف كصنيع الروافض -قبحهم الله- و لذا كان من مقاصد جمع القراءات المعروفة سد الطريق على أهل البدع صيانة لكتاب الله من التحريف و التبديل.

و من تلك الصور أيضا الوقوف و الابتداءات و ما يترتّب عليها من تغيير للمعنى و حمل الآية على الغلط و تحميلها البدع و الضلالات ، فأحببتُ في هذا المقال المختصر ذكر مثال واحد من ذلك و هو قوله تعالى < و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة >[القصص68]
فقد ذكر السُّمين الحلبي رحمه الله أنّ النّاس لم يزالوا يقولون أنّ الوقف عند < يختار> هو مذهب أهل السنة و أنّ عدمَ الوقف ثم وصل الباقي هو مذهب المعتزلة كما أنّ ابن كثير رحمه الله قد ذكر أنّ بعض المعتزلة قد احتجوا بها على وجوب مراعاة الأصلح .
قال السمين الحلبي رحمه الله <قلتُ: لم يزل النّاس يقولون أنّ الوقف على (يختار) و الابتداء ب " ما" على أنّها نافية هو مذهب أهل السنة و نُقل ذلك عن جماعة كأبي جعفر و غيره و أنّ كونها موصولة متصلة ب " يختار " غير موقوف عليه مذهب المعتزلة >(1)
فظاهر كلامه رحمه الله يفيد أنّ هذا كان منتشرا و مشتهرا بين النّاس بل حتى قال القشيري : < الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله " و يختار "> و قال المهدي <و هو أشبه بمذهب أهل السنّة> (2)

و عليه فسيكون ترتيب المقال على فصلين أساسيين:
1-تفسير آية القصص و ذكر الخلاف في ذلك
2-ذكر قول المعتزلة و الرد عليه




(تفسير قوله تعالى " و ربُّك يخلق ما يشاء و يختار ' ما كان لهم الخيرة " < القصص 68 > )

للعلماء في هذه الآية قولان ، سبب الخلاف راجعٌ إلى معنى " ما " ما هو ؟ أهي نافية أم موصولة في محل نصب لـ " يختار " ؟
و جمهور النَّاس على القول الأول و هو أصح القولين كما رجح هذا كثير من المفسرين ، و اختار ابن جرير رحمه الله القول الثاني و نصره و غلَّط أصحاب القول الآخر و أنكره و سيأتي قريبا ذكر الحامل على ترجيحه و إنكاره رحمه الله و جواب ذلك ،

و يُمكن إرجاع القولين على حسب الوقف المختار في الآية و بيان ذلك :

1-أنّه لو كان الوقف التام على قوله < و يختار> تُصبح "ما" نافية و المعنى < و ربُّك يخلق ما يشاء و يختار ما يشاء أن يختاره > و (ما كان لهم الخيرة) مستأنفة و تتفرع عن هذا تفاسير و معان منها :
- المعنى الأول :و يختار لرسالته من يريد و يعلم فيه المصلحة ثم نفى أن يكون للناس الاختيار في هذا و نحوه .(3)
- المعنى الثاني :و يختار الله تعالى الشرائع و الأديان ليس لهم الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام و نحوها في العبادة.(4)

2-لو لم يكن وقفا تاما على " يختار" فهذا يعني أنّ جملة (ما كان لهم الخيرة) متعلقة بما قبلها و بناء على هذا تتفرع التفاسير الناشئة عن القول الثاني و نذكر منها :
- المعنى الأول :و يختار لولايته الخيرة من خلقه ، فالخيرة هنا بمعنى المُختار و ليست بمعنى المصدر =الاختيار . و هو قول الطبري رحمه الله (5)
- المعنى الثاني : و يختار لخلقه الأفضل و الأصلح لهم و هو قول لبعض المعتزلة كما أشار إلى هذا ابن كثير رحمه الله في تفسيره حيث قال <و قد احتج بهذا المسلك طائفة من المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح > (6)

هذا و قد رد العلماء القول الثاني من جهة أنّ الصناعة العربيّة تأباه فلو كانت "ما" موصولة للزم أن يعود عليها شيء و لا عائد ، و أيضاً للزم نصب " الخيرة " على أنّها خبر ل " كان " و قد أجمع القراء على رفعها ، نعم حاول أصحاب القول الثاني توجيه الآية من حيث الإعراب و الجواب عن هذه الإيرادات لكن العلماء ضعفوا ما ذكروه و إليك البيان :

1- الاسم الموصول كما هو معلوم لابدّ فيه من صلة و عائد و هو ضمير غائب مطابق يرجع عليه فقُدّر أنّه محذوف في الآية و التقدير " و يختار ما كان لهم الخيرة فيه " لكنّ هذا غير جائز إلا إذا كان الاسم الموضول مجرورا بنفس حرفِ الجر المُقدر مع اتحاد المعنى كقوله تعالى " و يشرب مما تشربون " أي منه .
2-اعتذر الطبري على رفع " الخيرة " بجعل ضمير الشأن في " كان " و أنشد قول عنترة على ما روى القاسم بن معن : أمن سمية عين الدمع تذريف // لو كان ذا منك قبل اليوم معروف ، فلو كان "ذا" اسم كان لقال : (معروفا) فقرن البيت بالآية لكن ابن عطية رحمه الله منعه في الآية و قال :"لأنّ الأمر و الشأن لا يُفسر بجملة فيها مجرور " و تعقب السمين الحلبي قولَ ابن عطية لكن مع هذا فإنّ التوجيه المذكور بعيد.


أنكر الطبري رحمه الله كون وقوع " ما " نافيةً بل قال إنّ هذا القول لا يشتبه فساده على ذي حجا و الذي حمله على ذا أمران :
-لئلا يكون المعنى : إنّهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى و هي لهم فيما يُستقبل . و جوابه : قال المهدوي : و لا يلزم ذلك لأنّ " ما " تنفي الحال و الاستقبال كليسَ و لذلك عملت عملها.
-لم يتقدم كلام بنفي ، أي أنّ أبلغ الكلام و أحسن النظام لا يحتمل أن يبتدئ النفيَ من غير سابق كلام يقتضي ذلك و دلّل على هذا بسياق الآيات، و الجواب : قال المهدي : و لا يلزم ذلك لأنّ الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه و سلم على ما يُسأل عنه و على ما هم مصرون عليه من الأعمال و إن لم يكن ذلك في النص . (7)

[ذكر قول المعتزلة و الرد عليه]

من المعلوم أنّ للمعتزلة في مذهبهم أصولا خمسةً ترجع إليها جلُّ المسائل الاعتقادية عندهم و عنها تتفرع و من تلكم الأصول : العدل و تتفرع عنه مسألة وجوب مراعاة الصلاح و الأصلح في أفعال الله سبحانه بالعباد فهم يزعمون أنّه من الواجب على الله تعالى و تقدس أنْ لا يفعل بالعباد إلا ما فيه صلاحهم و فيما يُذكر عنهم أنّهم استدلوا بآية القصص و لا يستقيم لهم الاستدلال -مع كونه متهافتا- حتى تُقرأ الآية وصلا لا يوقف على " يختار " لذا اشتهر ما تقدم ذكره من كون الوصل مذهبا للمعتزلة ، و في بيان أقوال المفسرين و الترجيح بينها على ما تقدم إبطال لاستدلالهم هذا و يبقى إبطال هذا الأصل من حيث هو و ذكر مذهب أهل السنة في ذلك و الله الموفق .
يكفي في إبطاله بيان بطلان الإيجاب على الله و التحريم قياسا على خلقه لأنّ قولهم هذا مبني عليه و إذا فسد الأصل سقط البناء ، [فالوجوب منفي عن الله تعالى إذ المفهوم منه ما ينال تاركه الضرر عاجلا أو آجلا أو ما يكون نقيضه محال ، و هذه كلها يتنزه الله عنها ، فإنه لا ينتفع بعمل و لا يتضرر بتركه و لا يلزم من ذلك محال بل إن الواجب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئا](8)

يقول شيخ الإسلام :"وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا.
ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح
" (9)
فكل ما بالعباد من صلاح و خير و نعمة فمحض تفضل منه سبحانه حتى ما أوجبه على نفسه فإنّه أوجبه تفضلا لا أنّ العباد يستحقون عليه ذلك كاستحقاق الأجير على المأجور مثلا فإنّ هذا القياس باطل بالاتفاق ،

و أمّا قول أهل السنة في مسألة مجرد مراعاة الصلاح أو الأصلح لعباده فعلى ما حكاه شيخ الإسلام حيث قال رحمه الله : " وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرسال الرسل مصلحة عامة وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته، فإن الله تعالى كتب في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش: "إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي رواية: "إن رحمتي سبقت غضبي"، أخرجاه في الصحيحين عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- ، فهم يقولون فعل المأمور به وترك المنهي عنه مصلحة لكل فاعل وتارك.
وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة للعباد وإن تضمن شراً لبعضهم، وهكذا سائر ما يقدره الله تعالى تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس فلله في ذلك حكمة أخرى، وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث والتصوف وطوائف من أهل الكلام غير المعتزلة مثل الكرامية وغيرهم
"(10)

تنبيه :
بعد أن نقل السمين الحلبي رحمه الله اشتهار ذلك الوقف من مذهب أهل السنة و الآخر من مذهب المعتزلة أعقبه بأنّ الزمخشري و هو من كبار المعتزلة اختار القول الأول و الطبري رحمه الله من كبار أهل السنة و اختار عدم الوقف فكأّنه رحمه الله يستشكل ذلك الإطلاق من كون الوقف مذهبا لأهل السنة لكن قد يُقال في جواب هذا : أنّ الطبري رحمه الله و إن كان قال بذلك القول إلا أنّ التفسير الذي بناه عليه غير ما زعمه المعتزلة و قد تقدم بيانه ، و أما كون الزمخشري يختار الأول فلا إشكال في هذا لأنّ المقصود أنّ هذا الاستدلال هو احتجاج طائفةٍ منهم لا أنّ كل المعتزلة يقول بهذا.


آخر ما أحببتُ جمعه و نشره و الحمد لله أولا و آخرا.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
(1): [الدر المصون 8/691 ]
(2):[الجامع للقرطبي 16/306.307]
(3) ،(4) : [المحرر الوجيز 295/4-296 ]
(5):[ تفسير الطبري 18/299 ]
(6):[ التفسير 107/3-108 دار ابن الجوزي ]
(7):[ بتصرف عن الجامع للقرطبي 16/307]
(8): [المعتزلة و أصولهم الخمسة و موقف أهل السنة منها ص 199]
(9):[اقتضاء الصراط المستقيم ص409] نقلا عن :[المعتزلة و أصولهم الخمسة و موقف أهل السنة منها ص 199]
(10):[منهاج السنة النبوية (171/1-172)]


التعديل الأخير تم بواسطة أبو عمر محمد ; 31 Aug 2017 الساعة 09:37 PM
رد مع اقتباس