عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 08 May 2020, 01:45 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





ثم يقول تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ)

انظروا ! الآية السابقة في الفعل وهنا في القول، إذا قلت فاعدل سواء في الإخبار والأخبار أو في الشهادة، أو في الجرح والتعديل، أيّ قول تقوله فاعدل فيه، تكليف من الله تبارك وتعالى بهذا العدل، الذي قامت عليه السماوات والأرض، فلابد من العدل، إذا قلت فاعدل، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا) ( النساء : 135 )

الله أكبر ! فالعدل في القريب والبعيد، العدل في القول في أيّ مقام من المقامات وفي أيّ حال من الأحوال، بالنسبة للعدو والصديق ، والكافر والمسلم، لابد من العدل، فإنّ العدل واجب في كل حال، وعلى كل حال، ولكل أحد وعلى كل أحد.

العدل أمر عظيم، لا يحملنّك شفقة على قريب أو التّعصّب له أن تقول غير العدل، ولا يحملنّك شدّة العداوة والشنآن للعدوّ أن تتجاوز العدل، لابد من العدل، وإذا ظلمتَ كافرا، فاسقا، مجرما لإجرامه، واستجزتَ أن تظلمه ولا تقيم فيه ميزان الله العدل، فإنّك تحاسب على هذا، لأنّ الله هو العدل سبحانه وتعالى، الّذي تنـزّه عن الظلم، ولا يرضى أن تظلم أحدا مهما كان، لا بقول ولا بفعل، لا في مال ولا في عرض .

تشهد على قريبك ولو كان أبوك، تقوم بالقسط، وتشهد للعدو إذا كان له حقّ مهما بلغ بالعداوة إذا كنت تعرف أن له حقّا على شخص وطُلب منك الشهادة، عليك أن تدلي بهذه الشهادة على وجه العدل ولو كان على أبيك .

الظلم للناس في أموالهم وأعراضهم هذا ديوان لا يترك، ذنب لا يُغفر وهو الشّـِرْك، وذنب لا يُترك وهو تظالم العباد فيما بينهم، حتى لو جاز المسلمون الصراط، المؤمنون النّاجون لو جاوزوا الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار ليؤخذ لبعضهم البعض، فالله لا يترك هذا، ويأتي الإنسان بحسنات أمثال الجبال وهو المفلس، سمّاه رسول الله المفلس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتدرون ما المفلس ؟ قالوا المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع . فقال: إنّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار (6) ) هذا هو المفلس، فليصن الإنسان لسانه من الغيبة والنميمة والظلم وقول الباطل وشهادة الزور، كل هذه الأشياء تنافي العدل الذي شرعه الله تبارك وتعالى في القول .

ثم قال تعالى: (وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ)

الله أكبر ! رسول الله ضرب أروع الأمثلة في صلح الحديبية، عليه الصلاة والسلام، كان قد جاءه مندوب قريش وآخرهم سهيل بن عمرو واصطلحوا على هدنة عشر سنين ومن الشروط أن لا يدخلوا البيت في هذا العام، وأن لا يطوفوا ولا يسعوا، ومن ضمن الشروط المجحفة أنّ مَن ذهب إلى المدينة لابد أن يُعاد إلى مكة، ومَن ذهب من المسلمين من المدينة إلى مكة لا يعود، فجاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في القيود يقول: يا معشر المسلمين كيف أعود، كيف أرجع إلى هؤلاء فيفتنوني ؟! وسهيل يصرّ على أنّه لابد أن يرجع، ورسول الله يتلطّف به، يقول له: اترك هذا لي، يقول له: لا أتركه أبدا، ولن يبرم هذا العهد ولا ينفذ إلاّ إذا عاد هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جندل: ( أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمَن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنّا قد صالحنا هؤلاء القوم وجرى بيننا وبينهم العهد وإنّا لا نُغدر (7) ) هذا من الوفاء بالعهود: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) ( المائدة : 1 )، (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) ( الإسراء : 34 )

أمر العهود عظيم جدا في الإسلام، فلابد من الوفاء بالعهود سواء على مستوى الدول أو على مستوى الأفراد، وأولى الأمور بالوفاء عهد الله علينا: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (ياسين : 60 - 61 )

فـنفي بعهد الله بأن نلتزم الإسلام، ونلتزم ما جاء في كتابه، وفي سُنَّة نبيّه عليه الصلاة والسلام، من الأوامر فننفذها، والنواهي فنجتنبها، ونجتنب كل ما حرّم الله علينا سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (8)) فنفي بعهد الله ونفي بالعهود، إذا كانت بيننا وبين دول أخرى يجب أن نوفي بها، وإذا كانت بين أفراد وأفراد، الإنسان يدخل في ذمّة المسلم، إذا دخل كافر حربي في ذمة امرأة أو عبد فإنّه يلزم المسلمين جميعا أن يفوا بعهد هذه المرأة أو هذا العبد، انظروا إلى أي حد يحترم الإسلام العهود ؟!

(وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

يؤكّد ويكرّر هذه الوصايا: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم)، (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم)، يعني أمور حازمة، جازمة لابد أن نقوم بها، ولماذا يوصينا بهذا؟ يوصينا لنتذكّر، فندرك ونعتبر ونتّعظ وننزجر، هذه أمور عظيمة جدا يجب أن يرعاها المسلمون؛ أفرادا ومجتمعات .

ثم قال بعد ذلك : (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)

ويدخل في هذا الصراط المستقيم، هذه الأمور التي وصانا الله بها، من توحيده وإخلاص الدّين له، ومن اجتناب الشِّرْك، ومن اجتناب العقوق، والقيام بالبرّ ، ومن، ومن ..إلى آخر الأشياء التي ذُكرت في هذه الوصايا، كلّها داخلة في صراط الله المستقيم، وعلينا أن نتّبعه (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)، وهذه الوصيّة باتّباع الصراط، جاءت في آيات كثيرة، بأساليب مختلفة، منها : الأمر بالاعتصام بحبل الله وأن لا نتفرّق، وهنا قال (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) فنتّبع صراط الله المستقيم، في عقائدنا وفي عباداتنا، وفي معاملاتنا، وفي مناهجنا وفي سياستنا، وفي كلّ أمر شرعه الله تبارك وتعالى، فإنّه صراطه، وإنّه عدله سبحانه وتعالى، ولن تستقيم للمسلمين حياة إلاّ إذا اتّبعوا صراط الله المستقيم، وإلاّ فهي حياة منحرفة، وحياة حقيرة ودنيئة، حياة الذلّ والهوان، لعدم التزامنا وسلوكنا هذا الصراط المستقيم وعدم إتّباعنا لمنهج الله الحقّ .

(وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) نهي عن التفرّق ونهي عن الضلال: (وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) : كلّ الملل والنِّحَل لا يجوز أن نتّبع منها شيئا، طرق البدع والضلال لا نتّبع منها شيئا، نلتزم صراط الله المستقيم، لا عوج فيه ولا أمتا، (الصراط المستقيم) هو المعتدل الذي يوصلك إلى الله تبارك وتعالى ومرضاته .

أمّا السُّبُل الأخرى فكما جاء في حديث ابن مسعود وحديث جابر وغيرهما : قال: (خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا وقال: "هذا سبيل الله" ثم خطّ خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال: "هذه سُبُل على كلّ سبيل شيطان يدعو إليه (9))

فللشيطان سبل كثيرة، سبيل اليهود، سبيل النصارى، سبيل الوثنيين، المجوس، الهندوك، سبيل مشركي العرب آنذاك، ولمَن بقي منهم على الشِّرْك، سبل للروافض وللخوارج، للمعتزلة، للمرجئة، لاثنتين والسبعين فرقة، على كل سبيل منها شيطان يزيّنه ويزخرفه ويلمعه للسخفاء الذين لا يعقلون ولا يتبصّرون ولا يتّعظون ولا يتذكّرون !!

(وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

انظروا! قال في الوصية الأولى: (لعلّكم تعقلون) ثم قال في الثانية: (لعلّكم تذكرون) ثم قال هنا: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، قال بعض العلماء وأظن منهم ابن عطية: لأنّه إذا عقِل تذكّر، وإذا عقل وتذكّر حصلت التّقوى، إذا عقل وصية الله وعمل بها، وإذا تذكّر هذه الوصايا العظيمة واستفاد من هذه الذكرى، قاده ذلك إلى تقوى الله ومراقبته وخشيته، استقام على الصراط المستقيم، وأخذ بمواعظ الله ونصائحه ووصاياه، لابدّ أن يكون من أفضل المتّقين إن شاء الله .

وفي هذه الآيات رعاية وحفاظ على مقاصد الشريعة والمصالح العظيمة ودرء المفاسد الكبرى: حفظ المال، حفظ النفس، حفظ النسب، وحفظ الدّين.

فمن هذه المقاصد العظيمة:

- الحفاظ على الدّين وحماية العقيدة، ولهذا شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله، وحرّم الشِّرْك وأوجب التّوحيد وشرع الجهاد لتحقيق هذه الغاية، توحيد الله ونبذ الشِّرْك بالله تبارك وتعالى .

- الحفاظ على الدماء، فحرّم قتل النفس وأوجب فيها القصاص .

- الحفاظ على المال: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّام) (البقرة: 188 ) إلى آخره من الآيات التي حرّمت الاعتداء على المال بأيّ شكل من الأشكال، لأنّ المال به قوام الحياة أو كما يقال : عصب الحياة، فلابد من حمايته .

- حماية الأعراض (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) هذا لحماية الأعراض.

فهذه آيات عظيمة جامعة لمصالح الدّين والدّنيا، فلابدّ من العناية بها، فهمًا وتطبيقًا .

نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقّهنا وإيّاكم في دينه، وأن يوفّقنا لالتزام شريعته، وأن يثبّتنا عليها، وأن يجنّبنا هذه المعاصي والكبائر ما ظهر منها وما بطن، إنّ ربّنا لسميع الدّعاء، وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المصدر

الصور المرفقة
 
رد مع اقتباس