عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 23 Jul 2010, 11:34 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " من أفتى النّاس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم عاص. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: ويلزم وليّ الأمر منعهم كما فعل بنو أميّة، وهؤلاء بمنزلة من يدلّ الرّكب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطّب وهو يُطبُّ النّاس، بل هؤلاء أسوأ حالا من هؤلاء كلهم. وإذا تعيّن فعلى وليّ الأمر منع من لم يحسن التّطبّب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنّة ولم يتفقّه في الدين. قال: وكان شيخنا ( أي ابن تيمية ) شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبّازين والطبّاخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟! "
‏دعوة: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}
وبعد هذا كله أدعو الدكتور سفر الحوالي وسلمان العودة ومن هو على منهجهما أن يدَعُوا الإفتاء في النّوازل، و بتعبير أبين لبني عصرنا: أن يدَعُوا الإفتاء في القضايا السياسية لأهلها، وقد سمّينا لكم في غضون هذا البحث بعضهم كالشيخ الألبانيّ والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان وغيرهم ـ حفظهم الله ـ؛ لأنّه لا معنى لدخولكم في هذا الأمر وهيئة كبار العلماء بين أظهركم، ثم " إنّ أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطّاب لجمع لها أهل بدر".
وقد بان لكم إن شاء الله أنكم تحدّثون بكل شيء ممّا أوقعكم في الإخبار بخلاف الواقع، ومنها التّحليل على غير مراد الشارع، وقد قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ لابن وهب: " اعلم أنّه ليس يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدّث بكل ما سمع"، رواه مسلم.
خاصة وليس لكم إجازة من قِبل هيئة كبار العلماء للتّكلم في هذه القضايا، بل قد نَهَوْكم عنها صراحة وعلى رأسهم العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ حفظه الله ـ كما في هذا البيان الآتي، وقد صوّرته كما هو:
هذه صورة الوثيقة التي فيها بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في توقيف سفر الحوالي وسلمان العودة
وأنصح إخواننا السّلفيّين ألاّ يوسّعوا الرقعة ويبعدوا الشقّة، فتضيق صدورهم بالخلاف الفقهي خاصة منه السياسي بين من سمّيت من العلماء السّلفيّين؛ لأنّ الاختلاف سنّة الله في خلقه، وقد كان مثله بين الصّحابة فلم يضرّهم؛ لأنهم أحسنوا استقباله فلم يطمع فيهم عدوّ. وأما أن يلقّبكم المبتدعة اليوم بالبازييّن وإخوانكم بالألبانيّين، وفيكم سمّاعون لهم، فلا غَرْو أن تنتشر بينكم الفرقة، فاحذروا رحمكم الله، فإنّه لا يزال هؤلاء المشايخ يزكّي بعضهم بعضا بلسان صدق إن شاء الله، ومناقبهم قد ملأت الآفاق. لكن قوما لم تهنأ أفئدتهم بمحبتهم، يسعون جاهدين لصرف وجوهكم عنهم، وأنا أُبيِّن لكم أمارتهم، فإنكم تجدون مَن يثير بعض الخلاف الفقهي بين الشيخين الألباني وابن باز، وقد تكون مسألة القبض بعد الرفع من الركوع! ـ فإنهم في مثلها لا يُفَرِّطون مهما دقّت ـ فيُسقِطون إحدى الجهتين: إما جهة الألباني بزعم الجهل بالفقه، وإما جهة ابن باز بزعم الجهل بالحديث، وبقي أن يُجَنِّدوا للجهة الأخرى من الشباب مَن يتهمها بالجهل بالواقع وعدم النضج السياسي! فيُسقطون الجميع ليَخلو لهم وجه الناشئة، والله حسيبهم. وآخرون يتربَّصون بالعلماء ريْب المَنُون، لا يدركون أن مستقبلهم بعدهم غير مأمون؛ لأن هؤلاء العلماء هم بقية السلف، يذهبون ويَتركون أحزاب الشباب يتامى بين هرْج وتلف، قد أنهكهم اختلاف الآراء، وتراجموا بها تراجم الصبيان بالحصباء، والله المستعان على ذلك اليوم.
فلذا أقول في خاتمة هذه الكلمة: لو لم يكن من جني بحثي إلا أنّني حبّبت إليكم أهل العلم لكفاني ذخرا عند ربّي U الذي قال: {وأَمَّا بِنِعْمَة رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
الواجب اليوم
أعقد هذا الفصل ليعلم أولئك الذين سمّيتُ في هذه الدعوة، بما ينبغي أن يَشغلوا به هذه الثروة الهائلة من شباب دعوة الإسلام.
وأنقل إليكم كلمات من غرر الحكم عن ابن القيم وعبد الرحمن السعدي
ـ رحمهما الله ـ وأرجو أن تتأمّلوها جيّدا، بارك الله فيكم.
إصلاح الوقت لإصلاح الحال:
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل » كيف تُصْلِحُ حَالَكَ؟ «: " هَلُمَّ إلى الدّخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نَصَب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطّرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والنّدم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاقّ، إنما هو عمل القلب ".
قلت: ما مضى من وقتك في معصية الله يمكنك استرجاعه، مهما قيل
" الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك "، وهي حكمة صحيحة إلا أنّ الله استثنى منها التّائبين، فمهما ضيّعوا من وقت في زنى، بل في قتل، بل في شرك، فإنّ من تاب منها استدرك وقته ليس صحيفة بيضاء فحسب، بل قد كتب عليها الحسنات بدل السيّئات كأنّ وقته قد عُمِّر بها، والله لا يعجزه شيء وهو القائل: {والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَــهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
وقال: " وتمتنع فيما يُستقبل من الذّنوب، وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشقّ عليك معاناته، وإنما هو عزم ونيّة جازمة تريح بدنك وقلبك وسرّك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنيّة ".
قلت: وبهذا يتبيّن لك سرّ اقتران التوبة بالاستغفار في مثل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى اللهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فالاستغفار على معنى ترك ما مضى، والتوبة على معنى عدم الإصرار في المستقبل، وقد جمع الله بينهما في آية واحدة فقال: {والَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
قال ـ رحمه الله ـ: " وليس للجوارح في هذين نصبٌ ولا تعبٌ،ولكنّ الشأن في عمرك، وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذُكر نجوت وفزت بالرّاحة واللّذة والنّعيم ".
قلت: وهذا يدلّك على سرّ اشتراط الله تعالى الإصلاح مع التوبة التي إذا أُطلقت دخل فيها الاستغفار، كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكقوله: {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فالإصلاح حينئذ يكون على معنى إصلاح الوقت الحاضر، وقد قيل:
ما مضى حُلْم و المؤمَّل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها
وهذا يُبيِّن لك وجه ذكر ( الإصلاح ) بعد آيات التوبة، والله أعلم.
قال ـ رحمه الله ـ: " وحفظه أشقّ من إصلاح ما قبله وما بعده، فإنّ حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها، و أعظم تحصيلا لسعادتها، وفي هذا تفاوت النّاس أعظم تفاوت، فهي والله أيّامك الخالية التي تجمع فيها الزّاد لمعادك، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار ... ".
قلت: من تدبّر القرآن وجد دعوته لا تخرج عن هذه الأوقات الثّلاثة، قال الله تعالى: {الـــر . كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللهَ إنَّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ. وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيُهِ}، أي إنما أَحْكَم اللهُ كتابَه وفصّله لتعبدوه في هذه الأوقات الثلاثة بما أَمر.
فقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللهَ} لعبادة الوقت الحاضر؛ إذ التّوحيد أنفع وأصلح وأولى الطّاعات، وألزمُها مصاحَبةً لصاحبه.
وقوله: {وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم} للماضي.
وقوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} للمستقبل).
وسبب التّركيز ههنا على التّوحيد لإصلاح الحاضر أمران:
الأول: أنّه لا يجوز أن يخلو وقت من الاهتمام به، وهو الجامع لتوحيد الرّبوبيّة وتوحيد الألوهيّة وتوحيد الأسماء والصّفات.
الثاني: أنّه أصل كل عمل صالح؛ ألا ترى أنّ الأعمال الصّالحة من مكمّلاته الواجبة أو المستحبّة؟! ولذلك كان أوّل شيء دعا إليه الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام؛ لأن من رسَخ التّوحيدُ في قلبه ظهرت بشاشتُه على سائر جوارحه، وأنبتت شجرتُه أطيبَ الثّمار كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون}.
وهذه الدعوة الثلاثية تكرّرت في السّورة نفسها عدّة مرّات، قال الله تعالى: {وَإِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} إلى أن قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا ربَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}.
وقال: {وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وِاسْتَعْمَرُكْم ِفيَها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
وقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى أن قال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}.
وعن أبي سعيد الخدري t أنّ نبيّ الله قال: » كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال: إنّه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا! فقتله فكمّل به مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالم، فقال: إنّه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم! ومَن يَحُول بينه وبين التوبة؟ فانطلِقْ إلى أرض كذا وكذا؛ فإنّ بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنّها أرض سوء، فانطلقَ حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مُقْبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قطّ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ـ أي حَكَماً ـ فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيّتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة « متفق عليه.
في هذه القصة يظهر جليًّا إصلاحُ هذا الرجل للأوقات الثلاثة، فبعد أن تاب من ماضيه، وعزم على التوبة في مستقبله، اشتغل بما يُصْلِح حاضرَه فوراً، ألا وهو الهجرة من دار الفساد ولم يترك لطول الأمل مجالاً، ولذلك لم تجد له الملائكة من عمل صالح إلا هجرته هذه، ولما كانت هي عبادةَ الوقت غُفر له؛ لأنّ التزامه بها دليل على الإخلاص للحق جلّ وعلا، ومنه يظهر أنه كان موحِّداً.
وعن البراء قال: أتى النبيَّ رجلٌ مقَنَّع بالحديد، فقال: يا رسول الله! أقاتل أو أُسْلِم؟ قال: » أَسلِم ثم قاتل «، فأسلم ثم قاتل فقُتِل! فقال رسول الله : » عَمِلَ قليلاً وأُجِر كثيراً « متفق عليه.
و إنما ذكرت هذه القصة هنا لأمرين:
الأول: أنّ النبي لم يقبل منه الجهاد إلا بعد التوحيد، ولكن قَبِل منه جهاده قبل الصلاة.
الثاني: أنّ بعض الناس يستدل به على التهوين من شأن الصلاة والعمل الصالح وأنه ليس شرطا في جهاد المسلمين، وهو صحيح لو أن وقت الصلاة كان دخل مع وقت القتال فقدِّم القتال، وهذا ليس لهم عليه دليل، ويردّه بوضوح تشريع صلاة الخوف وقت المسايفة، وإنما كل ما في الأمر أن وقت عبادة الجهاد كان قد دخل، وأما وقت عبادة الصلاة فلم يحِن بعد، فأُمِر أن يشغل وقته بعبادته المناسبة. ولمّا كان التوحيد عبادة كل وقت لم يأذن له النبي e في تأخيره، ولذلك كان من ثاقب فهم البخاري ـ رحمه الله ـ أن بوّب له بقوله: " باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون
بأعمالكم ". فتدبّر هذا تكن من الرّاشدين.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " وله عليه ( أي لله على العبد ) في كل وقت من أوقاته عبودية تقدِّمه إليه وتقرِّبه منه، فإن شغَل وقته بعبودية الوقت تقدَّم إلى ربّه، وإن شغله بهوى أو راحة أو بطالة تأخّر، فالعبد لا يزال في تقدّم أو تأخّر، لا وقوف في الطريق ألبتّة، قال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} "، وقال: " فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولابد؛ فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، وإما إلى أمام، وإما إلى وراء ... ما هو إلا مراحل تُطوَى أسرع طيّ إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ، ومتقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف ألبتّة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي السرعة والبطء ".
قلت: ويدل عليه قول النبيّ : » كلُّ النّاس يَغْدُو؛ فبائعٌ نفسَه:
فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها « رواه مسلم، وفي رواية: (( يا كعب بن عجرة! الناس
غاديان ... )).
قلت: كلُّهم يَغْدُون، فمن لم يبع نفسه لله الذي قال: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}، باعها للشيطان المترصّد؛ وذلك لأنّ الله خلق للإنسان وقتاً، وأمره بعبادات مناسبة لوقته فليست ( الواجبات أكثر من الأوقات ) كما زعم حسن البنا
ومن لم يَعمُر وقته بما أُمر به افترسه الشيطان ولم يمهله، قال الله تعالى: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ}، قال ابن القيم: " إنّ الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه، ولهذا قال: {فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ولم يقل تَبِعَه؛ فإنّ في معنى {أَتْبَعَهُ} أدركه ولحقه، وهو أبلغ من تبعه لفظاً ومعنًى ".
قلت: تأمّل حسن موضع الفاء بين {انسَلَخَ مِنْهَا} و{أَتْبَعَهُ} لأنّها تفيد ترتيب الإتْبَاع على الانسلاخ بلا مهلة و{لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ}.
هذا في حقّ من شغل وقت الطاعة بالمعصية أو على الأقلّ يقال: ترك الطاعة، بل وحتى في حقّ من شغل وقته بطاعة خالصة لله لكن لم يحن وقتها بعد، ولذلك كان الجهل بما يصلح الوقت من عبادة يحْرِم النّفس زكاتها ورقيّها في درجات الصّلاح، يدلّ عليه آية وحديث:
ـ أما الآية فهي قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فهؤلاء نُهوا عن القتال وأُمروا بعبادة الصبر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فشغلتهم عبادة الجهاد عن عبادة الصبر، ومن ثم لم يُحْكموا عبادة الصلاة والزكاة، فعوجلوا بعقوبة قلوبهم كما صرّحت الآية.
وأما الحديث فهو ما رواه أحمد والبخاري عن أبي سعيد بن المعلّى t قال: كنت أُصلي، فمرّ بي رسول الله e فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: 187 " ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ «.
ما أبلغها من موعظة! عبد يؤخِّر إجابة الرسول مشتغلا بصلاة النافلة يهدَّد بنقصان حياة قلبه؟ فكيف لو كان في لهو ولعب؟ فكيف لو استدرك على الله حين يأمره بالصبر على عدوّه أيام الاستضعاف فلا يستحيي أن يخالفه متظاهرا بحب الجهاد؟!
حكمة ذلك: لعل الحكمة في هذا كله ما أشار إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ حين قال: " يرشد الله عباده من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيها ... وهذه القاعدة الجليلة دعا إليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقي العالمين إلى كل خير ديني ودنيوي، فإنّ العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، قصر فكره وظاهره وباطنه عليه فينجح، ويتمّ له الأمر بحسب حاله، وإن تشوّقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعد، شُغل بها ثم استبعد حصولها ففترت عزيمته، وانحلّت همّته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى كليلا، يُنقص من إتقان عمله الحاضر وجَمْع الهمّة عليه، ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همّته وقلّ نشاطه ".
قلت: ومنه قول الله عزّ وجلّ: {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فِضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُعْرِضُونَ. فأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
وقال أيضا: " وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني ".
قلت: ومنه قوله تعالى: {ويَقُولُ الَّذِينَ ءَاَمنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي تأمر بالقتال، قال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ. فَأَوْلَى لَهُمْ. طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
فتدبّر كيف كان عاقبة السيّئة السوأى؛ إذ تولّوا عن القناعة بأمر الله لهم بالصلاة و الزكاة، وطمحت نفوسهم إلى جهاد عدوّهم قبل أن يُكتب عليهم، فلمّا كتب عليهم الجهاد تولّوا، فأصابتهم لعنة الله لأنّ ذلك الطموح كان حماسة عجول، أو دفاع منتقم، أو استشفاء متغيّظ متحرّف لقتال متحيّز إلى نفسه، إلى غير ذلك مما ترشح به قلوب الحركات الإسلامية اليوم. ولذا ترى المسلمين اليوم ـ على وعيهم الكبير لما يدور حولهم ويُدبَّر لهم فيما يقال ـ لا ينقطع سؤالهم عن سبب تأخر صلاح المشتغلين بالدعوة، وقد يكونون ذوي نشاط وتنظيم كبيرين، في حين يقرأون عن الصحابة سيرة شبيهة بالخيال في عالم الكمال، وهم لا يتنبّهون إلى هذه القاعدة الجليلة ألا وهي: اشتراك جلّ الحركات الإسلامية في الاشتغال بما لايعنيهم في حاضرهم هذا، ألا وهو السياسة، والبحث عن قتال الأعداء، وهم لم يحاربوا أنفسهم العادية، فهل تراهم خلَّصوا مجتمعاتهم بل وأنفسهم من الشركيات؟ وهل عرفوا ربهم كما عرفه السلف من غير تحريف للأسماء والصفات؟ وهل ترى مساجدهم مكتظة بأهلها في صلاة الفجر عند تنزل الملائكة من السموات؟ فإن الله يقول:{إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ ...}. وصدق رسول الله إذ يقول:» مِن حُسْنِ إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعْنِيه « رواه التّرمذيّ وهو حسن. فلن يحسن إسلامنا ما أقمنا على ما لا يعنينا في وقتنا هذا
ومن أسرار الكتاب العزيز أن تُرتَّبَ هذه الآيات على آية فيها الأمر بإصلاح الوقت الحاضر بالتّوحيد، وإصلاح الماضي والمستقبل بالاستغفار وذلك قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِين وَالمُؤْمِنَاتِ}.
وما أحسن خاتمتها حين قال سبحانه: {وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْوَاكُمْ}!
وينبّه الله تعالى على ما في هذا المنهج من ثبات على الدين فيقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي بمقاتلة العدوّ، {أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ} أي بالهجرة من الأوطان الحبيبة، قال: {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}!
ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}، فأخبر سبحانه أنّ ترك الاشتغال بمجاهدة العدوّ بالسّيف وتعويضه بمجاهدة النّفس في ذلك الوقت هو أشدّ ما يثَبِّت على هذا الدين، وإلا فقد قال الحسن ـ رحمه
الله ـ: " من علامة إعراض الله عن عبده أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ".
العبادة الفضلى
سرّ المسألة يتمثل في معرفة العبادة الفضلى التي يركَّز عليها وتستوعب وقت المرء، وحول هذا جدل معروف لست بصدده، وإنما أذكر ما أعتقده حقيقا بالتّحقيق ناقلا عن ابن القيم ـ رحمه الله ـ قوله: " من لم يكن وقته لله وبالله فالموت خير له من الحياة، وإذا كان العبد وهو في الصلاة، ليس له من صلاته إلا ما عقَل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله ".
قلت: أما أن يكون الوقت لله فهو استنفاد العمر في العبادة على تنوعها حتى لا يكون للشيطان منه نصيب، ومن فعله فقد حقق قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
وأما أن يكون الوقت بالله فهو ألا تشغل وقتك إلا بعبادة تناسبه، تستوحيها من الشرع الحنيف، ومن فَعَله فقد حقق قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال ابن القيم: " أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته "
فأفضلها عند جهاد العدوّ جهاده، ولو آل ذلك إلى ترك قيام اللّيل وصيام النهار، قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْءَانِ. عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَرْضَى وءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}.
وأفضلها عند نزول الضيف القيام بحقه لقول النبيّ :" إنّ لزَوْرك عليك حقّا « رواه مسلم.
وأفضلها عند سماع الأذان أن تَترك ما أنت فيه من ذكر، وأن تجيب المؤذّن لقول النبيّ : » إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول « الخ .. الحديث الذي رواه مسلم.
وأفضلها عند أوقات الصلوات المبادرة إلى الجامع والنصح في أدائها على أكمل وجه لقول الله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}.
وأفضلها عند السَّحَر تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار والصلاة لقول الله تعالى: {يَتْلُون ءَايَاتِ اللهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ولقوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وأفضلها عند ضرورة المحتاج إغاثته بالجاه أو البدن أو المال لقول النبيّ :» أطعموا الجائع، وعُودُوا المريض، وفُكُّوا العاني « رواه البخاري.
وأفضلها عند لقاء أخيك التسليم عليه ولو أدى إلى قطع الذّكر، وأفضلها عند مرضه أو موته عيادته وتشييع جنازته لقول النبيّ : » حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام وعيادة المريض واتّباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس « متفق عليه.
وأفضلها عند أذاة الناس لك أداء واجب الصبر، مع خلطتك لمجتمعهم دون الهرب منه لقول النبيّ : » المؤمن الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم « رواه ابن ماجه وهو حسن، هذا في أذيّة نفسك، أما إذا خفتَ منهم على دينك فأفضل العبادة اعتزالهم، إذ خُلْطَتهم في الشر شر، ودين المرء رأس ماله، لقول النبيّ :
» كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيتَ في حُثالة من النّاس مَرَجَت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا « وشبّك بين أصابعه، قال: قلت: يا رسول الله ما تأمرني؟ قال: » عليك بخاصة نفسك ودع عنك عوامهم « رواه ابن حبّان وهو صحيح.


يتبع

رد مع اقتباس