عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 09 Nov 2019, 06:49 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي أهميّة توحيد العبادة.







أهميّة توحيد العبادة

لفضيلة الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله

مقدّمة

الحمد لله الذي قال في كتابه المبين: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾[الأنعام: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إيّاه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللّهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فإنّ أوجب الواجبات وأهم المهمات إخلاص العبادة لرب الأرض والسماوات، وعدم صرف شيء منها لأحد من المخلوقات، لأنّه للتكليف بتوحيد العبادة خُلق الجن والإنس، ولبيانه والدّعوة إليه أنزلت الكتب وأُرسلت الرسل، وبسبب قبوله وردّه حصل الانقسام إلى مؤمنين وكافرين وسعداء وأشقياء، ولا شك أنّ حاجة كل إنسان إلى معرفة هذا التّوحيد والتّعبّد به فوق كل حاجة، وضرورته إليه فوق كل ضرورة، لأنّ في ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وهذا التوحيد هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله المشتملة على ركنين: نفي عام وهو نفي العبادة عن كل مَن سوى الله، و إثبات خاص وهو إثباتها لله وحده، وإخلاص العمل لله، أحد شرطي قبول العمل المتقرب به إلى الله، والشرط الثاني المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل المقبول عند الله هو ما كان خالصاً لله ومطابقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فُقد شرط الإخلاص رُدّ العمل، لقول الله عز وجل: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾[الفرقان: 23]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» رواه مسلم (7475) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وإذا فُقد شرط المتابعة رُدَّ العمل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ» رواه البخاري (2697) ومسلم (4492) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي لفظ لمسلم (4493): «مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ»، والرواية الثانية أعم من الأولى؛ لأنها تشمل من أحدث ومن تابع من أحدث.

ولأهميّة توحيد العبادة وأنّه ينبغي العناية به من العلماء والدعاة إلى الله عز وجل، رأيت كتابة هذه الكلمات، وأسأل الله عز وجل أن يوفّق المسلمين للفقه في الدّين والثبات على الحق وإخلاص العمل لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، إنّه سميع مجيب.

خلق الجن والإنس لتكليفهم بالعبادة

خلق الله الجن والإنس لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وقد انقسموا إلى قسمين: سعيد وشقي، وعاص ومطيع، فمَن أطاعه دخل الجنّة ومَن عصاه دخل النار، قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[السجدة: 13]، وكلّهم مأمورون منهيّون، وهم مع هذا الأمر والنّهي موفَّقون ومخذولون، ومعنى خَلْقهم للعبادة: أي لتكليفهم وابتلائهم بها، وقيل: المراد بقوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾ مَن آمن منهم، قال القرطبي في تفسيره: «قيل: إنّ هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنّه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص، والمعنى: وما خلقت أهل السّعادة من الجن والإنس إلاّ ليوحّدون»، وقال ابن كثير في تفسيره: «أي: إنّما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم»، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في (أضواء البيان: 7/ 714 ـ 715): «والتحقيق ـ إن شاء الله ـ في معنى هذه الآية الكريمة ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلاّ لآمرهم بعبادتي وأبتليهم، أي: أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ، وإنّما قلنا: إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنّه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرّح تعالى في آيات من كتابه أنّه خلقهم ليبتليهم أيّهم أحسن عملاً، وأنّه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، قال تعالى في أول سورة هود: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، ثم بيَّن الحكمة في ذلك فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، وقال تعالى في أول سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور﴾، وقال تعالى في أول الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَل﴾ الآية، فـتصريحه ـ جلّ وعلا ـ في هذه الآيات المذكورة بأنّ حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيّهم أحسن عملاً يفسّر قوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، وخير ما يفسّر به القرآن القرآن».



توحيد العبادة هو حق الله على عباده

روى البخاري (5967) ومسلم (143) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حقّ الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقّ العباد على الله أن لا يعذّبهم».

فقد اشتمل هذا الحديث على بيان حق الله على عباده، وهو إفراده بالعبادة وترك الإشراك به، واشتمل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم وعنايته ببيان هذا التوحيد، وذلك بندائه معاذاً رضي الله عنه ثلاث مرات متفرقات، ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «هل تدري ما حق الله على عباده؟»، والمراد من هذا التمهيد بهذا النداء والسؤال أن يتهيّأ معاذ رضي الله عنه لمعرفة واستيعاب ما يقوله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك دال على كمال بيانه صلى الله عليه وسلم وكمال نصحه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد أورد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذا الحديث في مطلع كتابه «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» وأخذ تسميته منه.

دعوة الرسل إلى توحيد العبادة

بعث الله في كل أمّة رسولاً بلسانها يدعوها إلى التّوحيد ويحذِّرها من الشِرْك ويدلّها على خير ما يعلمه لها ويحذّرها من شرّ ما يعلمه لها، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم: 4]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وقال: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ﴾[النحل: 2]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وفي صحيح مسلم (4776) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّه لم يكن نبي قبلي إلاّ كان حقاً عليه أن يدل أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم»، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك» حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم في السّنّة (48) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، ورواه أيضاً (47) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

ففي هذه الآيات الدلالة إجمالاً على أنّ كلّ رسول دعا أمّته إلى التّوحيد وحذّرها من الشرك، وقد جاءت الآيات إجمالاً في بيان كفر أقوامهم بهم وبقائهم على ملّة آبائهم، قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ [إبراهيم: 9ـ 10]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُون﴾ [سبأ: 34]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون﴾[الزخرف: 23]، وقال: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾[الذاريات: 52].

وهذا الإجمال في دعوة الرسل إلى التّوحيد وردِّ أممهم عليهم جاء مفصلاً في قصص الأنبياء في القرآن الكريم، قال الله عز وجل عن نوح في سورة الأعراف: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59]، وقال في سورة هود: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِين * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود: 25ـ 26]، وقال في سورة المؤمنون: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: 23]، وقال في سورة الشعراء: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون﴾ [الشعراء: 105ـ 110]، وقال في سورة نوح: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُون﴾ [نوح: 1ـ 3].

وقال عن ردّ قومه عليه في سورة المؤمنون: ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 24]، وقال في سورة نوح: ﴿وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]، وقد أوردت في التقديم لكتابَيْ تطهير الاعتقاد وشرح الصدور للصنعاني والشوكاني آيات مفصلة لدعوة عدد من الرسل من بعد نوح ورد بعض قومهم عليهم، وهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ويعقوب وموسى وعيسى وسليمان وإلياس ويونس ويوسف ومحمد عليهم الصلاة والسلام.

أقسام التّوحيد ودلالة بعضها على بعض:

أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
-فـتوحيد الربوبية: توحيد الله تعالى بأفعاله كالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة وغيرها من أفعاله التي اختص بها ولم يشاركه فيها أحد.

توحيد الألوهية: توحيده تعالى بأفعال العباد كالدعاء والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها من أفعال العباد، فإنه يجب أن يخصوا الله بها ولا يجعلوا له شريكاً فيها.

توحيد الأسماء والصفات: توحيده بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات ما جاء في الكتاب والسُنّة من أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير تكييف أو تشبيه أو تمثيل، ومن غير تحريف أو تعطيل أو تأويل، كما بيَّن الله ذلك بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى مشابهة غيره له.

والدليل على هذا التقسيم استقراء نصوص الكتاب والسُنّة، فإنّها دلّت على توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ويتّضح ذلك بأوّل سورة في القرآن وآخر سورة فيه، ففي قول الله عز وجل: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إثبات توحيد الألوهية، وذلك بحمد العباد ربّهم، وتوحيد الربوبية بقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ومن أسماء الله في هذه الآية لفظ الجلالة والربّ كما في قوله: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيم﴾[يس: 58]، وفي قول الله تعالى: ﴿الرَّحْمـنِ الرَّحِيم﴾ إثبات توحيد الأسماء والصفات، وفي قوله: ﴿مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: توحيد الربوبية، وفي قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: توحيد الألوهية، وفي قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ إلى آخر السورة: توحيد الألوهية.

وفي قول الله عز وجل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ توحيد الألوهية وهو الاستعاذة بربّ الناس، وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات في: (ربِّ الناس)، وفي قوله: ﴿مَلِكِ النَّاس﴾ توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وفي قوله: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

وتوحيدا الربوبية والأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمّن لهما، فإنّ مَن أقرّ بأنّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت وحده، لزمه أن يعبد الله وحده، ولا يجعل غيره شريكاً له في العبادة، ومَن أقرّ بما جاء في الكتاب والسُنّة من الأسماء والصفات، لزمه أن يعبد الله وحده لا شريك له، ومَن كان مقرّاً بتوحيد الألوهية فهو مقرّ بتوحيد الربوبية وبتوحيد الأسماء والصفات، لأنّ مَن عبد الله وحده لا ينكر أن يكون خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ولا ينكر أن يكون سميعاً بصيراً عليماً حكيماً.

وتوحيد الرُبُوبِيَّة قد أقرّ به الكفار الّذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُدخلهم في الإسلام، وقد جاء في القرآن آيات كثيرة فيها تقرير توحيد الربوبية وإقرار الكفار بذلك لإلزامهم بـتوحيد الألوهية، وأنّ مَن تفرّد بالخلق والإيجاد وحده لزم أن يُعبد وحده، قال الله عز وجل: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87]، وقال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 31ـ 32]، وقال: ﴿قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون: 84 ـ 92]، وقال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: 59 ـ 64]، ففي كلٍّ من هذه الآيات الخمس من سورة النمل قُرّر توحيد الربوبية لإلزام الكفار بتوحيد الألوهية، وذلك في قوله في آخر كل آية قُرر فيها توحيد الربوبية: ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾.

أوّل مأمور به وأول منهي عنه

لمّا بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق والهدى كان أوّل شيء دعا إليه الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الإشراك به، ففي مسند الإمام أحمد (16603) بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن شيخ من بني مالك ابن كنانة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخلّلها يقول: يا أيها الناس! قُولُوا لاَ إِلَـهَ إِلاَّ الله تُفْلِحُوا» الحديث، ولمّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وضع له المنهج الذي يسير عليه في الدعوة إلى الله، وكان أوّل شيء أمره بالدّعوة إليه: التّوحيد، قال له عليه الصلاة والسلام: «إنَّك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أوّل ما تدعوهم إليه عبادة الله» الحديث، رواه البخاري (1458) ومسلم (123) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهم.

أفضل الأعمال التوحيد وأعظم الذنوب الشرك

التّوحيد أفضل عمل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» رواه البخاري (26) ومسلم (248).

والشرك أعظم ذنب عُصي الله به، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك» الحديث، رواه البخاري (4477) ومسلم (257).

ولهذا، فإنّ مَن مات على التوحيد إمّا أن لا يدخل النار، وإمّا أن يدخلها لكن لا يخلد فيها، فمآله إلى الجنّة، ومَن مات على الكفر، فليس له إلاّ النار خالداً فيها لا يخرج منها أبداً، قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، وقال في آيتين من سورة النساء: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾[النساء: 48ـ 93]، وقال: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار﴾ [المائدة: 72].

أوّل أمر وأوّل نهي في القرآن الكريم

قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21 ـ 22]، هاتان الآيتان الكريمتان هما أول موضع في المصحف جاء فيه الأمر والنهي، وقد اشتملتا على أعظم مأمور به وهو عبادة الله عز وجل في قوله: ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾، وأعظم منهي عنه وهو الشرك في قوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

وجاء في هاتين الآيتين بين الأمر بالعبادة والنهي عن الشرك الثناء على الله عز وجل بكونه ربّ الناس وخالقهم ورازقهم وخالق السماوات والأرض، وذلك يقتضي أن كل عاقل يجب عليه أن يخص الله بالعبادة ولا يجعل له شريكاً فيها.

بدأ دعوته صلى الله عليه وسلم بالتّوحيد وختمها بالتّوحيد
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه الله رحمة للعالمين ثلاثاً وعشرين سنة بدأها بالدعوة إلى التوحيد، وقد مرَّ قريباً قوله صلى الله عليه وسلم لقومه: «يا أيّها الناس! قُولُوا لاَ إِلَـهَ إِلاَّ الله تُفْلِحُوا»، وختمها بـالتحذير من الشرك ووسائله، فعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإنّ الله تعالى قد اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متّخذاً من أمّتي خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً، ألاَ وإنّ مَن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم (1188)، وهذا الحديث الذي قاله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال يدل أوله على فضل أبي بكر رضي الله عنه وعلى الإشارة إلى أولويته بالخلافة من بعده، ويدل آخره على التحذير من الوقوع فيما ابتلي به من سبق هذه الأمة من اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وقد اشتمل هذا الحديث على التحذير من ذلك من وجوه، منها بيان أن هذا الفعل حصل ممن سبق هذه الأمة، والمراد منه التحذير من وقوع هذه الأمة في ذلك، ومنها النهي بـ"لا" الناهية الموجَّه إلى هذه الأمّة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد»، ومنها تأكيد ذلك بالجملة الخبرية المؤكدة بـ (إنَّ) في قوله: «إنّي أنهاكم عن ذلك»، ومنها تصدير كلامه صلى الله عليه وسلم بأداة التنبيه، وهي: ألا، وهو يوضح اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والنهي عن الوسائل المؤدية إلى الشرك، وهذا من كمال بيانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وكمال نصحه لأمته عليه الصلاة والسلام.

ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا التحذير البليغ الذي قاله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال، بل حذّر من ذلك في آخر لحظاته صلى الله عليه وسلم، ففي صحيحي البخاري (435، 436) ومسلم (1187) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: «لما نَزَل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا»، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/532): «قوله: (لما نَزَل) كذا لأبي ذر بفتحتين، والفاعل محذوف أي الموت، ولغيره بضم النون وكسر الزاي»، وقال: «وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم، وقوله: (اتخذوا) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، وكأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: (اتخذوا)، وقوله: (يحذر ما صنعوا) جملة أخرى مستأنفة من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت فأجيب بذلك»، وقال النووي في شرح صحيح مسلم (5/13): «قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية».

بدء الحياة السعيدة وختمها بالتوحيد

الحياة السعيدة هي الحياة بالإسلام، وقد خلق الله عباده مفطورين على التّوحيد، قال الله عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 97]، وقال: ﴿فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، ومَن وُلد من أبوين مسلمين كانا سبباً في ثباته على الفطرة وتنشئته على الدين الحنيف، ومَن كان أبواه غير مسلمين كانا سبباً في صرفه عن الفطرة إلى الدين الباطل الذي كانا عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» الحديث، رواه البخاري (1358) ومسلم (6755)، وفي حديث قدسي: «وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» الحديث، رواه مسلم (7207) عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.

وكل كافر مدعو للدخول في دين الإسلام، لقول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25]، فـالدعوة عامة لكل أحد، والهداية خاصة بمَن وفقه الله للدخول في الإسلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلاّ كان من أصحاب النار» رواه مسلم (386) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وكما أن المسلم يبدأ حياته السعيدة بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، فإنّه يختمها بـكلمة الإخلاص عند الموت، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم (2125)، والمراد بـالموتى: مَن حضرتهم الوفاة لا مَن ماتوا، لأنّه لا تلقين بعد الموت، وهو من إطلاق الميت على مَن قارب الموت، ولحديث معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنّة» رواه أبو داود (3116) وغيره بإسناد حسن، ولحديث معاذ شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه (2993)، ولفظه: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنّه مَن كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنّة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه»، وانظر إرواء الغليل للشيخ الألباني رحمه الله (687).

ثواب المؤمنين وعقاب الكافرين

لمّا كان توحيد الله في عبادته أعظم عمل أطيع الله به جعل الله ثوابه دخول الجنّة والخلود فيها إلى غير نهاية، ولمّا كان الشرك بالله أعظم ذنب عُصي الله به جعل الله عقابه دخول النار والخلود فيها إلى غير نهاية، ولهذا قال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، وقال: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى﴾ [الروم: 10]، و الْحُسْنَى الجنّة، والسُّوأَى النار، وقد جمع الله في آيات كثيرة بين هذا الثواب للمؤمنين والعقاب للكافرين، ومن ذلك قول الله عز وجل: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 24 ـ 25]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلا﴾[النساء: 56 ـ 57]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 40 ـ 43]، وقوله: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 74 ـ 76]، وقوله: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: 18 ـ 20]، وقوله: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: 5 ـ 6]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَائُهُم عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 6 ـ 8].

ومَن كان مؤمناً وارتكب شيئاً من كبائر الذنوب ومات من غير توبة، فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه، كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾، وإذا لم يعف عنه وأدخله النار فإنّه لا يخلِّده فيها، بل يخرجه منها ويدخله الجنّة، قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾[فاطر: 32 ـ 35]، فإنَّ الواو في قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾ ترجع إلى أصناف المسلمين الثلاثة، وأحدهم الظالم لنفسه، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وممّا قاله شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في كتابه أضواء البيان مستطرداً عند قول الله عز وجل من سورة النور: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ الآية، قال: «والواو في ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ شاملة للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم: حُقّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوَعْده الصادق بجنّات عدن لجميع أقسام هذه الأمّة - وأوّلهم الظالم لنفسه - يدل على أنّ هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنّة في الآية شامل لجميع المسلمين، ولذا قال بعدها متّصلاً بها: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور﴾ إلى قوله: ﴿فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدخل اللهُ أهلَ الجنَّة الجنَّة، يُدخلُ مَن يشاء برحمته، ويُدخل أهلَ النار النار، ثم يقول: انظروا مَن وجدتُم في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيُخرَجون منها حُمَماً قد امتُحشوا، فيُلْقَون في نهر الحياة أو الحيا، فيَنبتُون فيه كما تنبُت الحبَّة إلى جانب السَّيل، ألَم تروها كيف تخرج صفراء مُلتوية؟» رواه البخاري (22) ومسلم (457) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ نَبِيٍّ دعوةٌ مستجابة، فتعجَّلَ كلُّ نَبِيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتِي شفاعة لأمَّتِي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمَّتِي لا يُشرك بالله شيئا» رواه البخاري (6304)، ومسلم (338) - واللفظ له - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأحاديثُ الشفاعة في خروج العُصاة من النار متواترةٌ.

وقال ابن القيم في كتابه الوابل الصيب (ص: 49): «ولمّا كان الناس على ثلاث طبقات: طيِّب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذِّبوا بقدر جزائهم أُخرجوا من النار فأُدخلوا الجنّة، ولا يبقى إلاّ دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض».

..يتبع..إن شاء الله...

الصور المرفقة
نوع الملف: png أهمية توحيد العبادة.png‏ (653.7 كيلوبايت, المشاهدات 26685)
نوع الملف: png العناية بالتوحيد.png‏ (389.2 كيلوبايت, المشاهدات 10099)
رد مع اقتباس