عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05 Feb 2017, 09:47 AM
أبو فهيمة عبد الرحمن البجائي أبو فهيمة عبد الرحمن البجائي غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 380
افتراضي اقتفاء الأثر لبلوغ سبيل سادات البشر

اقتفاء الأثر


لبلوغ سبيل سادات البشر

أبو فهيمة عبد الرحمن عياد


إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

ثم أما بعد: فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله؛ فهذه وريقات يسيرات فيها النصح والذكرى لإخواني بلزوم سبيل الهدى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-؛ فيها النداء باقتفاء اثر الأسلاف الصالحين من خير قرون هذه الأمة الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية بنص حديث رسول الله الذي ﴿مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ● إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3-4)؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عنه صحابيه الجليل عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»1. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»2. قال الشيخ العلامة الفوزان حفظه الله تعالى : « (الْبَيْضَاءِ) هي الجادّة، و (المحجّة) هي الجادّة، وهي طريقة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابهِ وسلف الأُمة، هذه هي المَحجّة والطريق الذي يجب على الخلف أن يسلكوه وأن يسيروا معهُ اقتدًاء بالقدوة العُظمى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبأصحابهِ وبأئمة المُسلمين، هذه هي المَحجّة، لا تتخلف عن المَحجّة، ويُغني عن هذا قولهُ تعالى ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، فصراطُ الله واحِد، وأما ما عداهُ فهي طرقٌ كثيرة، وعلى كُلِ طريقٍ منها شيطان كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو الناس إليه؛ فمن تركَ الصِراط المستقيم وقع في هذه الطُرقات المُلتفّة الكثيرة، وأخذتهُ الشياطين، واجتالتهُ الشياطين، ولهذا ندعو الله في سورة الفاتحة في كل صلاةٍ، وهي ركنٌ من أركان ]الصلاة[ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ● صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾، الذين أنعم اللهُ عليهم هم الصديقون والشهداء والصالِحون ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾ والْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم اليهود وأمثالهم من كل عالِم لا يعملُ بعلمهِ، ولا يُبينهُ للناس فإنهُ على طريقة اليهود المغضوب عليهم، لأنهم عندهم علم ولم يعملوا به، وَلَا الضَّالِّينَ وهم النصارى الذين يعبدون الله على جهلٍ وضلال على غير دليل وعلى غيرِ حق، ويدخل في هذا المتصوفة الضلال، ويدخل فيهِ المبتدعة، كلهم يدخلون في الضلال- نسأل الله العافية »3، والأدلة من الكتاب والسنة كثيرة على وجوب اتباع طريق الهدى واجتناب طرق الغي والضلال منها ما رواه ابن أبي عاصم عن جابر وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-، واللفظ لجابر قال: «كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطا هكذا أمامه فقال»: «هذا سبيل الله عز وجل»، وخط خطا عن يمينه وخط خطا عن شماله و قال: «هذه سبل الشيطان»، ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾4 ؛ ففي اتباع سبيلهم الهدى والنور، وفي اجتناب طريقهم وطريقتهم الوقوع في سبل الردى والفجور. قال الله تعالى ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الفتح 2)، وقال تعالى ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة 100)، فرِضا الله تبارك وتعالى على العبد منوط بسلوك طريق من رضي الله عنهم وأرضاهم، والتابع له حكم المتبوع. قال الشيخ العلامة السعدي -رحمه الله تعالى- عند تفسيره لآية التوبة : «السابقون هم الذين سبقوا هذه الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة والجهاد وإقامة دين الله ﴿مِنَ الْمُهَاجِرِينَ﴾ : ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾. ﴿و﴾ من ﴿الْأَنْصَارِ﴾ : ﴿الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾. ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ : بالاعتقادات والأقوال والأعمال؛ فهؤلاء هم الذين سلموا من الذم وحصل لهم نهاية المدح وأفضل الكرامات من الله. ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ : ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة »5؛ فالنجاء النجاء بالاتِّباع والاقتفاء؛ فالآخر تبَعٌ للأوَّل، وأوَّل هذه الأمَّة أئمتها من ساداتِ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين زكاهم بلسان القال والحال، قال ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين :«وَلَمَّا كَانَ التَّلَقِّي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ بِوَاسِطَةٍ،وَنَوْعٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ،وَكَانَ التَّلَقِّي بِلَا وَاسِطَةٍ حَظَّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبَّاقِ،وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَمَدِ فَلَا طَمَعَ لِأَحَدٍ مِن الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ فِي اللِّحَاقِ،وَلَكِن الْمُبْرِز مَنْ اتَّبَعَ صِرَاطَهُم الْمُسْتَقِيمَ،وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ الْقَوِيمَ وَالْمُتَخَلِّفُ مَنْ عَدَلَ عَن طَرِيقِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ،فَذَلِكَ الْمُنْقَطِعُ التَّائِهُ فِي بَيْدَاءِ الْمَهَالِكِ وَالضَّلَالِ،فَأَيُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ لَمْ يَسْبِقُوا إلَيْهَا؟ وَأَيُّ خُطَّةِ رُشْدٍ لَمْ يُسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا؟ تَاللَّهِ لَقَدْ وَرَدُوا رَأْسَ الْمَاءِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلَالًا، وَأَيَّدُوا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَدَعُوا لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالًا، فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِعَدْلِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ،وَالْقُرَى بِالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، وَأَلْقَوْا إلَى التَّابِعِينَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ مُشَكَّاةِ النُّبُوَّةِ خَالِصًا صَافِيًا،وَكَانَ سَنَدُهُمْ فِيهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَنَدًا صَحِيحًا عَالِيًا، وَقَالُوا: هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَقَدْ عَهِدْنَا إلَيْكُمْ، وَهَذِهِ وَصِيَّةُ رَبِّنَا وَفَرْضُهُ عَلَيْنَا وَهِيَ وَصِيَّتُهُ وَفَرْضُهُ عَلَيْكُمْ، فَجَرَى التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْهَاجِهِم الْقَوِيمِ، وَاقْتَفُوا عَلَى آثَارِهِمْ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمِ،ثُمَّ سَلَكَ تَابِعُو التَّابِعِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ الرَّشِيدَ، "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ" [الحج: 24]، وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: "ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ" [الواقعة: 13] "وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ" [الواقعة: 14] ثُمَّ جَاءَت الْأَئِمَّةُ مِن الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمُفَضَّلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَسَلَكُوا عَلَى آثَارِهِمْ اقْتِصَاصًا، وَاقْتَبَسُوا هَذَا الْأَمْرَ عَنْ مِشْكَاتِهِمْ اقْتِبَاسًا، وَكَانَ دِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَلَّ فِي صدُورِهِمْ، وَأَعْظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ، مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِ رَأْيًا أَوْ مَعْقُولًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ قِيَاسًا، فَطَارَ لَهُم الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الْعَالَمِين، وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، ثُمَّ سَارَ عَلَى آثَارِهِم الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَدَرَجَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ، زَاهِدِينَ فِي التَّعَصُّبِ لِلرِّجَالِ، وَاقِفِينَ مَعَ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، يَسِيرُونَ مَعَ الْحَقِّ أَيْنَ سَارَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَسْتَقِلُّونَ مَعَ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، إذَا بَدَا لَهُم الدَّلِيلُ بِأُخْذَتِهِ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، وَإِذَا دَعَاهُمْ الرَّسُولُ إلَى أَمْرٍ انْتَدَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا قَالَ بُرْهَانًا، وَنُصُوصُهُ أَجَلُّ فِي صُدُورِهِم وَأَعْظَمُ فِي نُفُوسِهِم مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، أَوْ يُعَارِضُوهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ»؛ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وان عبد حبشي؛ فانه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وايَّاكم ومحدثات الأمور؛ فانها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ»6 ؛ فالضلالة تقابل بالهدى، والهدى في اتِّباع المهتدين الراشدين؛ قال الشيخ الدكتور محمد عمر بازمول حفظه الله : «وقوله في الحديث «فعليه بسنتي» أي: فليلزم سنتي وسنىة الخلفاء الراشدين المهديين؛ فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي؛ فالإضافة إليهم إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته؛ فإنهم أشد الناس حرصا عليها وعملا بها في كل شيء. وعلى كل حال، كانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها. وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأي منهم أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل »7. قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- في «إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد» معلقا على حديث ابن مسعود أن النّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «خير النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» « الفائدة الثالثة: في هذا الحديث: فضلُ السلف على الخلف، وأنّ السلف بما فيهم القرون المفضَّلة أفضل من الخَلف، في العلم، وفي العمل، وفي السَّمْت والأخلاق، ففي هذا ردٌّ على من يقول: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخَلفِ أعلم وأحكم"، بل: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم من طريقة الخلف"، لأنّ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى عليهم وذمّ مَن يأتي بعدَهم، وإنّما ينجو مَن جاء بعدهم بإتّباعه لهم واقتدائه بهم، فلا يسلم من الخلَف إلاّ من تمسّك بهدي السلف وسار على نهجهم، أمّا من خالفهم فإنّه يهلك، فيكون: السلف أعلم وأسلم وأحكم» 8 ؛ فهو منهج الأنبياء والمرسلين الذين اقتفى آثارهم صحابة نبينا الأمين -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم وأرضاهم؛ الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، معلما وداعيا أصحابه وأمته أجمعين إلى سَنن هدى الأولين ليتمم به الدين ويقيم به الحجة وينير به المحجة لعموم الناس والمسلمين؛ ولا ريب أن الدعوة إلى طريقه -على طريقته- هي وظيفة علماء ودعاة السنة السلفيين.

قال فضيلة شيخنا الشيخ الوالد عبد الغني بن الحسن عوسات -حفظه الله تعالى ورعاه- في مقاله الماتع «كلمة في منهج الدعوة إلى الله» : « وإنَّ على الداعية إلى الإصلاح على علم وبصيرة أن يجعل نصب عينيه جهود الأوَّلين فإنّها كانت غير قَصيرة، وكانت آثارها غزيرة، وعلى رأسهم الأنبياء الذين في نهجهم الحكمة والعقل، والعصمة من الزَّلَل، وكان شعارهم في ذلك ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود : 88)، وتبعا لهم الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فقد كانوا على الإصلاح حريصين وعلى الصلاح ثابتين، ويليهم مَن اتَّبعهم فيه بإحسان إلى يوم الدِّين مِن الذين يَصلُحون إذا فسد الناس، والذين يُصلِحون ما أفسد الناس.

فلابدَّ إذًا، من منهج سديد وطريق رشيد يتَّبِعُهُ كل مَن يريد الإصلاح لا يزيغ عنه ولا يَحِيد، وهو ما كان منضبطا في ذاته وضابطا لغيره، ولقد قال الإمام مالك بن أنس ـ إمام دار الهجرة وإمام عِلمٍ وهدى ـ كلمة ذهبيَّة مُذَكِّرا المصلحين بأن لا سبيل للصلاح والإصلاح إلَّا إذا كان على سبيل الصُّلاح، فقال ـ -رحمه الله- : «وما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا، ولن يَصلُح آخر هذه الأمَّة إلَّا بما صَلُح به أوَّلها.»9 وعَقيب هذه الكلمة القوية قال الإمام محمد البشير الإبراهيمي متعلِّقا بمبناها ومُعلِّقا على معناها: «جملةٌ إن لم تكن من كلام النبوَّة فإنَّ عليها مَسحة من النبوَّة، ولَمحَة من روحها، ووَمضَة من إشراقها؛ والأمَّة المشار إليها في هذه الجملة أمَّة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وصلاح هذه الأمَّة شيء ضُربت به الأمثال، وقدِّمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلَّدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولَهِجَ به الراضي والساخط، وسجَّلته الأرض والسماء، فلو نطقت الأرض لأخبرت أنَّها لم تَشهَد ـ منذ دَحْدَحَها الله ـ أمَّة أقوم على الحق وأهدى به مِن أوَّل هذه الأمَّة، ولم تشهد - منذ دحدحها الله - مجموعة من بني آدم اتَّحدت سرائرُها وظواهرها على الخير مثل أوَّل هذه الأمَّة، ولم تشهد - منذ دحدحها الله - قوما بدأوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم، وفي إقامة شِرعة الإحسان بغيرهم مثل أوَّل هذه الأمَّة، ولم تشهد - منذ أنزل الله إليها آدم وعَمَرَها بذريَّته - مثالا صحيحا للإنسانية الكاملة حتّى شهدَتْه في أوَّل هذه الأمَّة، ولم تشهد أمَّة وَحَّدَت الله فاتَّحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمَّة».10

فهو منهج إذًا تَمتَدُّ أصوله إلى الصدر الأول، وتنبَع جذوره مما قَرَّره العلماء الربانيُّون على مدار القرون، لا يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، مهما تباعدت الأمصار وتقادمت الأعصار، فكانت قاعدة جامعة ومقالة نافعة: «نقتدي ولا نبتدي، نتَّبع ولا نبتدع»، فإنَّ منهج السلف حُجَّة على الخلف، قال عبد الله بن مسعود ـ-رضي الله عنه- : «من كان مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوبا، وأعمقَها علما، وأقلَّها تكلفا، وأقومَها هَدْيا، وأحسنَها حالا؛ قومٌ اختارهم الله لصُحبَة نَبِيِّه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبعوهم في آثارهم، فإنَّهم كانوا على الهدى المستقيم» 11، ولتأكيد ذلك في أذهان النّاس وتقريره، قال الإمام الأوزاعي -رحمه الله- مقولة مشهورة في تعبيره: «اصبر نفسك على السُّنة، وقِف حيث وقَفَ القوم، وقل بما قالوا، وكُفَّ عما كفُّوا، واسلُك سبيل سلفك الصالح، فإنّه يسعُك ما وسِعهم 12». 13

وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثنيا على أولئك القوم ومادحا لتلكم الطائفة التي تتبع ولا تبتدع؛ التي تتبع سبيل الأولين من الأنصار والمهاجرين، وتقتفي آثار السلف الصالحين، قال علية الصلاة والسلام : «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِك». 14

قالت اللجنة الدائمة برئاسة سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى- في جواب سؤال وجه لها هذا نصه : «س: قد اطلعت على حديث شريف أورده شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه [مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم]؛ وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: »ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة»، والسائل هنا يريد بيان هذه المسألة التي قال فيها الإِمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه آنف الذكر: (فهذه المسألة من أجل المسائل فمن فهمها فهو الفقيه ومن عمل بها فهو المسلم، فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا بفهمها والعمل بها) كما يود إجابته على الأسئلة التالية التي تدور حول الحديث المذكور وهي:

1- من هي الفرقة الناجية المشار إليها في الحديث؟

2- وهل تدخل الفرق الأخرى غير أهل الحديث؛ كالشيعة، والشافعية، والحنفية، والتيجانية وغيرها في الاثنتين والسبعين فرقة التي نص الرسول الكريم على أنها في النار؟

3 - وإذا كانت هذه الفرق في النار إلاَّ واحدة فكيف تسمحون لهم بزيارة بيت الله الحرام ؟ هل كان الإِمام الكبير على خطأ أم قد حدتم عن الجادة المستقيمة؟ » فكان الجواب كالتالي : «أولا : ما ذكره الإِمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في [مختصر السيرة] طرف من حديث صحيح مشهور رواه أصحاب السنن والمسانيد كأبي داود والنسائي والترمذي وغيرهم بألفاظ عدة منها: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة»، وفي رواية: «على ثلاث وسبعين ملة»، وفي رواية: «قالوا: يا رسول الله، من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وفي رواية قال : «هي الجماعة، يد الله على الجماعة».

ثانيًا: الفرقة الناجية قد بينها رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- في بعض روايات الحديث المتقدم بصفتها ومميزاتها في جوابه على سؤال أصحابه: من الفرقة الناجية؟ حيث قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وفي رواية أخرى قال: «هي الجماعة يد الله على الجماعة»، فوصفها بأنها هي التي تسير في عقيدتها وقولها وعملها وأخلاقها على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، فتنهج نهج الكتاب والسنة في كل ما تأتي وما تذر، وتلزم طريق جماعة المسلمين وهم الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يكن لهم متبوع إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى، فكل من اتبع الكتاب والسنة قولية أو عملية وما أجمعت عليه الأمة ولم تستهوه الظنون الكاذبة والأهواء المضلة والتأويلات الباطلة التي تأباها اللغة العربية - التي هي لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها نزل القرآن الكريم - وتردها أصول الشريعة الإِسلامية، كل من كان كذلك فهو من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.

ثالثًا: أما من اتخذ إلهه هواه وعارض الكتاب والسنة الصحيحة برأيه أو رأي إمامه وقول متبوعه حمية له وعصبية، أو تأول نصوص الكتاب والسنة بما تأباه اللغة العربية وترده أصول الشريعة الإِسلامية فشذ بذلك عن الجماعة فهو من الفرق الثنتين والسبعين التي ذكر الرسول المعصوم محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنها جميعها في النار، وإذًا فأمارة هذه الفرق التي بها تعرف: مفارقة الكتاب والسنة والإِجماع بلا تأويل يتفق مع لغة القرآن وأصول الشريعة ويعذر به صاحبه فيما أخطأ فيه.

رابعًا: المسألة التي ذكرها إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر أنها من أجل المسائل، وأن من فهمها فقد فهم الدين، ومن عمل بها فهو المسلم - هي ما تقدم بيانه في الفقرة الثانية من الإِجابة، من تميز الفرقة الناجية بما ميزها به النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن الفرق الأخرى على خلافها، فمن ميز بين الفرقة الناجية والفرقة الهالكة بما ميز به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفهم الفرق بين الفرق الناجية والهالكة على وفق بيانه فقد فهم الدين وميز بين من يجب أن يلزم جماعتهم ومن يجتنبهم ويفر منهم فراره من الأسد، ومن أخذ نفسه بالعمل بهـذا الفهم الصحيح فلزم جماعة الهدى والحق وإمامهم فهو المسلم؛ لأنه ينطبق عليه وصف الفرقة الناجية علمًا وعقيدةً وقولاً وعملاً.

ولا شك أن هذا من أجل المسائل وأعظمها نفعًا وأعمها فائدة، فرحم الله الإِمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رجل البصيرة النافذة والفهم الدقيق لنصوص الدين ومقاصده، حيث نبه على ما يهم المسلمين في أمر دينهم بالإِشارة أحيانًا كما هنا، وبالعبارة والبيان أحيانًا أخرى كما في كثير من مؤلفاته.

خامسًا: لم يجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الألقاب التي اشتهرت بها الطوائف المنتسبة للإِسلام سمات تعرف بها الفرق الثنتان والسبعون، ولا عنوانًا يتمايز به بعضها عن بعض، وإنما جعل أمارتها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، اتباعًا للظن وما تهوى الأنفس، وقولاً على الله بغير علم وعصبية لمتبوعهم سوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعادون في ذلك ويوالون، كما جعل شعارًا للفرقة الناجية اتباع الكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين، وإيثار ذلك على مداركهم وظنونهم وأهوائهم، فهواهم تبعًا لما جاءت به الشريعة الإِسلامية، يوالون في ذلك ويعادون، فمن يتخذ ميزانًا يزن به الطوائف سوى بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعرف به فرقها ليميز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة فقد تكلم بغير علم وحكم في الفرق بغير بصيرة فظلم بذلك نفسه، وظلم الطوائف المنتسبة للإِسلام، ومن رجع في تمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة إلى بيانه -صلى الله عليه وسلم- عدل في حكمه وعرف أن جماعات الأمة درجات متفاوتة، فمنهم من هو أحرص على اتباع الشريعة والاستسلام لها وأبعد الناس عن الابتداع في الدين والتحريف في نصوصه، والزيادة فيه أو النقص منه فهؤلاء أسعد الناس بأن يكونوا من الفرقة الناجية، فعلماء الحديث وأئمة الفقه في الكتاب والسنة منهم من هو أهل للاجتهاد يحرص على الشريعة ويسلم لها إلاَّ أنه قد يتأول بعض نصوصها تأويلاً يخطئ فيه فيعذر في خطئه لكونه في موارد الاجتهاد، ومنهم من ينكر بعض نصوص الشريعة، إما لكونه حديث عهد بالإِسلام، وإما لأنه نشأ في أطراف البلاد الإِسلامية فلم يبلغه ما أنكره، ومنهم من يرتكب معصية أو يبتدع بدعة لا يخرج بها عن حظيرة الإِسلام، فهو مؤمن مطيع لله بما فيه من طاعة، مسيء بما ارتكب من معصية وابتدع من البدع فكان في مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وقال ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾؛ فهؤلاء وهؤلاء ليسوا بكفار بتأويلهم الخاطئ أو جحدهم ما جحدوا بل يعذرون ويدخلون في عداد الفرقة الناجية وإن كانوا دون الأولى. ومنهم من جحد معلومًا من الدين بالضرورة بعد ما تبين له واتبع هواه بغير هدى من الله أو تأول بعض نصوص الشريعة تأويلاً بعيدًا مخالفًا في ذلك من سبقه من جماعة المسلمين، ولما بين لهم الحق وأقيمت عليهم الحجة بالمناظرات وغيرها لم يرجعوا فهؤلاء كفار مرتدون عن الإِسلام وإن زعموا أنهم مسلمون، وإن اجتهدوا في الدعوة إليه على عقيدتهم وطريقتهم؛ كجماعة القاديانية الأحمدية الذين أنكروا ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أن غلام أحمد القادياني نبي الله ورسوله، أو أنه المسيح عيسى ابن مريم، أو تقمصت روح محمد أو عيسى بدنه فكان بمنزلته في النبوة والرسالة.

سادسًا: لأهل السنة والجماعة أصول ثابتة بالأدلة يبنون عليها الفروع، ويرجعون إليها في الاستدلال على المسائل الجزئية وفي تطبيق الأحكام على أنفسهم وعلى غيرهم.

ومنها: أن الإِيمان قول وعمل وعقيدة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما زاد المسلم في الطاعة زاد إيمانه وكلما فرط فيها أو ارتكب معصية بحيث لا ينتهي به ذلك إلى الكفر الصريح نقص إيمانه، فالإِيمان عندهم درجات والفرقة الناجية طبقات متفاوتة بعضها فوق بعض حسب الأدلة وما كسبوا من الأقوال والأفعال.

ومنها: أنهم لا يكفرون أحدًا معينًا أو طائفة معينة من أهل القبلة ويتحرجون من ذلك؛ لإِنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على أسامة بن زيد بن حارثة قتله رجلاً من الكفار بعد أن قال: لا إله إلاَّ الله، ولم يقبل من أسامة اعتذاره عن قتله بأنه قالها متعوذًا ليحرز بها نفسه. بل قال له: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» يعني: أقالها خالصًا من قلبه أم لا.

إلاَّ إذا أتى بما هو كفر واضح، كإنكاره لمعلوم من الدين بالضرورة أو مخالفة لإِجماع قاطع وتأويله لنصوص صريحة لا تقبل التأويل ثم لم يرجع عن ذلك بعد البيان.

وقد لزم إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله طريقة أهل السنة والجماعة وسار على أصولهم، فلم يكفر أحدًا معينًا ولا طائفة معينة من أهل القبلة بمعصية أو تأويل أو بدعة إلاَّ إذا قام الدليل على الكفر بذلك، وثبت البلاغ والبيان، ولم تختلف الحكومة السعودية - رعاها الله وأيدها بتوفيقه - عن ذلك في معاملتها لرعيتها وحكمها فيهم، ولا في موقفها من المسلمين في الدول وخاصة من يفد إلى بيت الله الحرام لأداء نسك الحج أو العمرة فهي تحسن الظن بالمسلمين وتعتبرهم إخوانًا لها في الدين وتتعاون معهم على ما يشد أزرهم ويحفظ حقهم ويرد إليهم ما سلب منهم، وترحب بمن يفد إليها وتقوم بما يسهل عليهم أداء نسكهم أو مهمتهم خير قيام بعطف وحدب، يعرف ذلك من خبر أحوالها ووقف على شؤونها وما تبذله من جهود وأموال في سبيل الإِصلاح العام للمسلمين وتوفير الراحة لحجاج بيت الله الحرام .

ولهذا تسمح لطوائف المسلمين المختلفة بزيارة بيت الله الحرام دون التنقيب عما خفي من عقائدهم عملاً بالظاهر دون التنقيب عما في البواطن، والله يتولى السرائر، فإذا وضح لها كفر شخص أو طائفة معينة كالقاديانية مثلاً وثبت ذلك لدى العلماء المحققين من الدول الإِسلامية فلا يسعها إلاَّ أن تمنع من ثبت كفره وردته من أداء الحج والعمرة؛ حمايةً لبيت الله الحرام أن يقربه من في قلبه رجس، وعملاً بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ وقوله تعالى ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.﴾

ومما تقدم يتبين وجه أهمية المسألة العظيمة التي أشار إليها إمام الدعوة في عصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجاء طلب بيانه في السؤال، كما يتضح أنه رحمه الله سار على النهج السليم حيث لزم أصول أهل السنة والجماعة ، وإن الحكومة السعودية في معاملتها للمسلمين في العالم لم تحد عن الجادة، بل التزمت أصول أهل السنة والجماعة أيضًا كما لزمها إمام الدعوة، فأخذت المسلمين بظواهرهم ولم تنقب عن قلوبهم، فتسامحت مع من خفي أمره وقست على من كشف عن جريمته، وأصر على ردته بعد المناظرات المتتالية والبيان المتتابع.

وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم» 15. قال الشيخ العلامة ربيع بن هادي المَدخلي -حفظه الله تعالى وأمد في عمره- : «والدين متكامل لا نحتاج إلى آراء وأفكار من أي جهة من الجهات، أو من أي جماعة من الجماعات؛ فالدين كامل في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي فقه هؤلاء الأسلاف الكرام الذين فهموا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الفهم عقيدة وعبادة.» ثم أردف حفظه الله في إشارة إلى حديث : «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.» : «فلنعض على هذا المنهج السلفي الذي ذكرناه لكم؛ فانه هو الحق، وهو منهج الطائفة المنصورة التي أخبر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها على الحق وأنها لا تزال على هذا الحق، وأنه منهج الفرقة الناجية -وهي الطائفة المنصورة- التي نوه بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما تحدث بافتراق الأمة، وصدق الله هذا الخبر، وافترقت الأمة وبقيت هذه الطائفة أهل الحديث الذين شهد لهم حتى أهل البدع بعد أهل السنة أنهم هم أهل الحق، وأنهم هم الطائفة المنصورة وأنهم الفرقة الناجية، والتي احتذى حذوها ابن تيمية وابن عبد الوهاب رضوان الله عليهم.

اننا لننعم في ضلال هذه الدعوة المباركة ونستضيء بأنوارها لا في هذا البلد بل في العالم، ولو لا العوائق التي تعوقها من أعداء الله ومن أهل البدع والضلال لرأيتم العالم الإسلامي الآن مضيئا بهذه الدعوة المباركة؛ فانها بدأت تنتشر وتكتسح العالم فتآمر أهل البدع وأهل الكفر في وقف هذا المد وهذا التيار القوي، ففعلوا الأفاعيل في إيقاف هذه الدعوة؛ فعليكم أن تدركوا هذا المؤامرات وهذه المكائد لهذه الدعوة التي لا يمكن أن ينام عن مدها وامتدادها وامتداد أنوارها، لا يمكن أن ينام أهل البدع وأهل الضلال، سواء تمثل هذا الابتداع وهذا الضلال في الكفر أو التحزب أو في التصوف أو في الرفض أو في غيره من الضلالات.

فانه لا يمكن أن تقر أعينهم، ولا يمكن أن يهدأ لهم بال وهذه الدعوة الإسلامية السلفية الحق تنتشر في الأرض؛ فكادوا لها المكائد.

فانتبهوا أيها الشباب، واعتصموا بحبل الله جميعا كما أمركم الله، وإياكم والتفرق فاقطعوا دابر هذا التفرق واستأصلوا شأفة كل أسبابه، سواء كان هوى أو تعصبا أو أي شيء...» 16
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
.................................................. ......
1. متفق عليه.
2.رواه أحمد وابن ماجه.
3. http://alfawzan.af.org.sa/node/15554 الموقع الرسمي لمعالي الشيخ الدكتور الفوزان -حفظه الله تعالى-:
4. رواه ابن أبي عاصم في «السنة»، وحسنه العلامة الألباني في «المشكاة».
5. » تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان»، للعلامة السعدي -رحمه الله تعالى-.
6. رواه الترمذي وأبو داود.
7. » فضل اتباع السنة»، للشيخ محمد بازمول -حفظه الله تعالى-، ص. 15. ورسالة الشيخ -حفظه الله- مترجمة إلى اللغة الفرنسية بقلم كاتب المقالLe mérite de suivre la Sounna، ومنشور فصل منها على الأنترنت: http://kabyliesounna.com/?p=529
8. «إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد»، ج2، ص281.
9. رواه عنه ابن الماجشون، كما ذكرها الشاطبي في «الاعتصام».
10. هذه الكلمات طليعة حديث كان ألقاه الشيخ البشير الإبراهيمي بدار الإذاعة في بغداد واختص به مجلة «الأخوة الإسلامية»، (العدد 1/22 نوفمبر 1952)، ثم نقلته «البصائر»، (العدد 5/20 فيفري 1953) ويمكننا قراءة الحديث كاملا في «آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي» (4/93 ـ 95).
11. رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله»: (1810).
12. الآجري في «الشريعة»: (1/58).
13. مقالة الشيخ -حفظه الله تعالى- «كلمة في منهج الدعوة إلى الله»، على موقعه http://aoussat.com/index.php?option=...id=209&lang=ar وهي مترجمة إلى اللغة الفرنسية بقلم كاتب هذا المقال ومطبوعة في رسالة بعنوان «اتباع السلف الصالح « Le suivi des pieux prédécesseurs وهي متوفرة على الأنترنت: http://markaz-al-jamaa.be/le-suivi-d...edecesseurs-2/
14. رواه مسلم.
15. صفحة موقع اللَّجنة الدائمة على الأنترنت: http://www.alifta.net/fatawa/fatawaD...o=1&PageID=598
16. رسالة الشيخ العلامة ربيع المدخلي -حفظه الله تعالى- «التمسك بالمنهج السلفي»، ص. 7-9. طبع دار ميراث الأنبياء. ورسالة الشيخ -حفظه الله- مترجمة إلى اللغة الفرنسية بقلم الكاتب بعنوان Tenir fermement à la Voie salafie ومتوفرة في منتدى التصفية والتربية: http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=20250

الصور المرفقة
نوع الملف: pdf اقتفاء الأثر.pdf‏ (779.0 كيلوبايت, المشاهدات 997)

التعديل الأخير تم بواسطة أبو فهيمة عبد الرحمن البجائي ; 14 Mar 2017 الساعة 02:32 PM
رد مع اقتباس