عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29 Jun 2018, 10:13 PM
أبو حامد الإدريسي أبو حامد الإدريسي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 36
افتراضي رشد العوام في ذكر أوَّل من بنى زاوية في الإسلام

رشد العوام
في ذكر أوَّل من بنى زاوية في الإسلام


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله بِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه الصَّادق الأمين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد:

إنَّ ممَّا قد ذاع وشاع في بلدنا منذ زمنٍ بعيدٍ، وبشكلٍ كبيرٍ، وعلى نطاقٍ واسع، ما يعرف باسم (الزَّاوية) عند جماهير النَّاس من أعلامها وأعيانها ومريديها، فكلُّ زاوية منها ولها طريقتها المتداولة في الآفاق، وكلُّ طريقةٍ منها ولها عبادتها المريدة في الأعناق، وكلٌّ منها قد جمعتها المحدثات والأغلوطات، والبدع والضَّلالات، بل حتَّى الشِّركيَّات والكفريَّات.
هذه هي (الزَّاوية) بواقعها المفسد وبتاريخها الأسود، والتي باتت ــ بلا شكٍّ ــ أفيون العامَّة من الأميِّين والجاهلين، وأيضاً مكاناً لكسب الأموال؛ بلا مشقَّة ولا تعب، ومحطَّة للإستغناء؛ بلا حقٍّ ولا نصب، من طبقةٍ هؤلاء أهل الأميَّة وأهل الجهل؛ أو من طبقة المغفَّلين ــ وما أكثرهم ــ في بلادنا أو في بلاد غيرنا، أو من طبقة المخدَّرين والمغرور بهم؛ تارة باسم الولاية وتارة أخرى باسم الكرامة، وبينهما من الغشِّ والإحتيال والكذب والخداع، كما ما بين السنَّة والبدعة من الصِّراع.
فمن أجل ذلك أردنا هنا أن نساهم ــ ببضاعتنا هذه المزجاة ــ في بيان أوَّل من بنى زاوية في أرض الإسلام، وقد أسمينا هذا البحث "رشد العوام في ذكر أوَّل من بنى زاويةٍ في الإسلام"؛ والله الموفَّق وهو الهادي إلى السَّبيل.
فنقول:
لقد كانت لي وقفة علميَّة مع "المجموع"(10/358) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة إذ يلخِّص لنا ــ رحمه الله ــ وبشكلٍ دقيقٍ، كيف كان أواخر عصر التَّابعين؛ فيقول:
"حدث ثلاثة أشياء: الرَّأي والكلام والتَّصوُّف. فكان جمهور الرَّأي من الكوفة، وكان جمهور الكلام والتَّصوُّف في البصرة. فإنَّه بعد موت الحسن وابن سيرين بقليلٍ ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهر أحمد بن عطاءٍ الهجيميُّ الذي صحب عبد الواحد بن زيدٍ، وعبد الواحد صحب الحسن البصريَّ ومن اتَّبعه من المتصوِّفة وبنى دويرة للصُّوفيَّة؛ هي أوَّل ما بني في الإسلام وكان عبد الرَّحمن بن مهديٍّ وغيره يسمُّونهم "الفقريَّة" وكانوا يجتمعون في دويرة لهم. وصار لهؤلاء حالٌ من السَّماع والصَّوت حتَّى إنَّ أحدهم يموت أو يغشى عليه. وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء وهؤلاء في القول والعمل، وأمَّا الشَّاميون فكان غالبهم مجاهدين"(1).
وفي هذا النصِّ من الملاحظات الهامَّة ما يجب علينا بيانها والإسترسال فيها؛ ومنها:
(الأولى): وهي في معرفة أحمد بن عطاءٍ الهُجَيْميُّ هذا المذكور؛ وقد جاء في أصل النصِّ عليٍّ بدل عطاء، وهو خطأٌ بيِّنٌ، والصَّواب فيه طبعاً هو ما ذكرناه.
قال الذَّهبيُّ(2): شيخ الصُّوفيَّة العابد القانت الزَّاهد أحمد بن عطاء الهُجيميُّ البصريُّ، توفِّي سنة مائتين (200هـ). وقال(3):
"المبتدع؛ فما أقبح بالزهَّاد ركوب البدع!!".
وقال(4) أيضاً: "ما كان الرَّجل يدري ما الحديث، ولكنَّه عبدٌ صالح وقع في القدر، نعوذ بالله من ترَّهات الصُّوفة(5)؛ فلا خير إلاَّ في الإتِّباع، ولا يمكن الإتِّباع إلاَّ بمعرفة السُّنن".
ذكره الدَّارقطنيُّ في "الضُّعفاء والمتروكين"(1/252) ومثله ابن الجوزيُّ (1/80)، وحكى الذَّهبيُّ في "المغني"(1/47) و"الميزان"(1/119)، وكذا الحافظ ابن حجر في "اللِّسان"(1/221) عن الدَّارقطنيِّ؛ قال:
"متروك".
وزاد الذَّهبيُّ(6): "أحمد بن عطاءٍ الهُجيميُّ يروي عن خالدٍ العبد(7)، وعن الضُّعفاء".
وقال(8): "كان تلميذ شيخ البصرة عبد الواحد بن زيدٍ(9)، ذكره أبو سعيدٍ بن الأعرابيُّ في "طبقات النسَّاك"؛ فقال: فكان قدرياً غير معتزليٍّ".
وروى(10) عن عبد الرَّحمن بن عمر رُسْتَه؛ قال: "رآني ابن مهديٍّ يوم جمعة جالساً إلى جنب أحمد بن عطاء، وكان يتكلَّم في القدر، وكان أزهد من رأيت، فاعتذرت إلى عبد الرَّحمن؛ فقال: لا تجالسه؛ فإنَّ أهون ما ينزل بك أن تسمع منه شيئاً يجب لله عليك أن تقول له: كذبت ولعلَّك لا تفعل".
وحكى الحافظ(11) عن الأزديِّ؛ قال: "كان داعية إلى القدر، متعبِّداً مغفَّلاً، يحدِّث بما لم يسمع". ومثله عن زكريَّا السَّاجيِّ، وكذا الذَّهبيُّ في "تاريخه" و"سيره".
ورويا(12) عن عليِّ بن المدينيِّ؛ قال: "أتيته يوماً فوجدت معه درجاً(13) يحدِّث به. فقلت له: أسمعت هذا؟ قال: لا، ولكن اشتريته وفيه أحاديث حسانٌ أحدِّث بها هؤلاء. فقلت: أما تخاف الله؟ تقرِّب العباد إلى الله بالكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم!".
قلت: هذا هو أبو عمروٍ(14) الهجيميُّ بعينه وحاله ــ كما رأينا ذلك ــ عند أهل هذا الفنِّ. إلاَّ أنَّ الغريب في الأمر؛ أنَّ الإمام الذَّهبيَّ قد ذكره أيضاً في "ديوان الضُّعفاء"(ص/7)، وقال فيه هنالك بأنَّه:
"مجهول".
وكيف يكون مجهولاً بعد الذي ذكرناه آنفاً؟! وقد ذكره هو في "الميزان" و"المغني"، وكذا في "تاريخه" و"سيَرِه"، منوِّهاً فيها ومعرِّفاً ــ كما يجب ــ عن عينه وحاله، ممَّا قد رفعت عنه تلك الجهالة. وكذلك فعل الآخرون كالحافظ والدَّارقطنيِّ وابن الجوزيِّ وغيرهم. فإذا علمنا هذا يمكن حينها توجيه قوله: "مجهول"؛ بمخرجين اثنين:
أحدهما: قوله في "الموقظة"(ص/36): "وقولهم: "مجهولٌ" لا يلزم منه جهالة عينه، فإن جُهل عينه وحاله، فأولى أن لا يحتجُّوا به". وليس كذلك الأمر هنا؛ إذ عينه هذه معلومة، كما هي حاله أيضاً معلومة، ممَّا يأخذنا القول إلى جمهور المحدِّثين: من أنَّ جهالة العين ترتفع عندهم برواية اثنين فصاعداً عن الرَّاوي. وكون الهجيميُّ هذا يروي فقط ــ كما قالوا: ــ عن خالدٍ العبد؛ فهو مجهول بهذه الحيثيَّة.
لكنَّ هذا مندفعٌ هنا بما رواه هو عن الدَّارقطنيِّ؛ قال: "يروي عن خالدٍ العبد، وعن الضُّعفاء". إذ قوله: "وعن الضُّعفاء"؛ تدلُّ على الكثرة من الرُّواة الضُّعفاء، ومنهم عبد الحكم كما ذكرناه في الهامش من حديث ابن الأعرابيِّ.
والآخر: أنَّ هذا قد يكون منه سهواً أو قد تكون فقط زلَّة قلمٍ فحسب، وخاصَّة أنَّه قد شرط في كتابه "الدَّيوان" شرطاً واضحاً في سبب تأليفه؛ وهو قوله (ص/1): "هذا ديوان أسماء الضُّعفاء والمتروكين وخلقٌ من المجهولين، وأناسٌ ثقات فيهم لين، على ترتيب حروف المعجم". والهُجيميُّ ذاك ــ وكما علمناه آنفاً ــ أنَّه ليس من الثِّقات، وليس أيضاً من المجهولين، بل هو من المتروكين. وإذ الأمر كذلك؛ فيمكن حينها أن نقول: أنَّه بدل أن يكتب لفظة "متروك" كتب مكانها سهواً لفظة "مجهول"؛ وهو المقبول هنا والموافق بما ذكرناه سابقاً ولاحقاً؛ والله أعلم.
(الملاحظة الثَّانية): في قول شيخ الإسلام: "وبنى دويرة للصُّوفيَّة، وهي أوَّل ما بني في الإسلام"؛ وهذا القول منه ــ رحمه الله ــ نفيسٌ ودقيقٌ، وفي غاية الأهميَّة، ويكون الكلام عليه من جهتين: من جهة اللُّغة ومن جهة التَّاريخ.
أمَّا من جهة اللُّغة: فهي في معرفة معنى هذه (الدُّويرة) كما جاءت عند أهل اللُّغة؛ فقالوا(15): الدَّار المنزل مبنيَّةٌ كانت أو غير مبنيَّةٍ، وهي مؤنَّثةٌ، وتصغيرها دويرةٌ، وجمعها في أدنى العدد ــ أو الأقلُّ: ثلاث ــ أدؤرٌ، والكثير الدُّورُ، ورُبَّما قالوا دارةٌ بالهاء في موضع الدَّار إذا عنى بهما المسكن. والتَّديُّرُ نزول الدُّور.
وقد وردت هذه اللَّفظة ــ مثلاً ــ في حديث عمر وعليٍّ رضى الله عنهما؛ إذ قالا حين سئلا عن قوله تعالى: {وأتمُّوا الحجَّ والعمرة لله}[البقرة:196]: "إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك"(16). مصغَّرة كما هي عندنا، والتَّصغير للإسم أو للنَّعت ــ وهو من أبواب الكلام ــ يجيئ أو يأتي على ثمانية أوجهٍ: أحدهنَّ ــ والذي يعنينا ــ تصغير العين لنقصانٍ فيها، وبمعنى آخر: أن يصغُرَ الشَّيء في ذاته كقولك: دويرة وحجيرة؛ إذا لم تكن كبيرة واسعة. وفيها عند أئمَّة النَّحو قاعدةٌ مهمَّة ــ باعتبار أنَّها من باب تصغير المؤنَّث الثلاثيِّ ــ مفادها: إذا صغِّرَ المؤنَّث الخالي من علامة التَّأنيث الثُّلاثيِّ أصلاً وحالاً كـ "دار" أو أصلاً كـ "يد" أو مآلاً بأن صار بالتَّصغير مؤنَّثاً. كلُّ هذا تلحقه التَّاء إن أمن اللَّبس؛ فتقول في تصغير دار: "دويرة".
فـ (الدُّويرة) هذه إذاً هي: مسكنٌ صغير كما يبدو، وهي بلغة العصر ــ المتداولة ــ: (الزَّاوية!!!)، وأهلها هم من الصُّوفيَّة وأهل الطَّرائق، فكلُّ طريقة وزاويتها الخاصَّة، وكلُّ زاوية وطقوسها المعتمدة، وهي عامرة في الأرض؛ ضاربة مشرقها ومغربها، وبالأخصِّ عندنا نحن في الجزائر؛ فلا يحصى منها ولا يعدُّ.
وأمَّا من جهة التَّاريخ: أن نعتمد فيه على ما ذكره الذَّهبيُّ في "تاريخه"(5/21)؛ فقال: "وكان أحمد بن عطاءٍ قد نصب نفسه للأستاذيَّة، ووقف داراً في بلهجيم(17) للمتعبِّدين والمريدين والمنقطعين، يقصُّ عليهم في العشيَّات. وأحسبها أوَّل دارٍ وقفت بالبصرة للعبادة". ومثله في كتابه "السِّير"(8/127) أيضاً؛ إلاَّ أنَّه فيه روى عن ابن الأعرابيِّ؛ قال: "وأحسبها أوَّل دار وقفت بالبصرة للعبادة". فهذا من قول الأعرابيِّ وليس من قول الذَّهبيِّ؛ فتنبَّه.
قلت: هنا فائدتان يجب الإنتباه إليهما بدقَّة:
الأولى: وهي في تنصيب الجهميُّ هذا نفسه للأستاذيَّة.
والثَّانية: في توقيفه دارٌ من أجل ذلك.
وفي معرفتهما ــ أو لنقل في الوقوف على خفاياهما وخباياهما ــ سوف تظهر كثيراً من الحقائق والدَّقائق، وتتحرَّر كذا كثيراً من المسائل والدَّلائل، لها علاقة متجدِّرة ووطيدة بمسمَّى (الزَّاوية)؛ وهي ما سوف نرى بعضها ــ على الأقلِّ ــ ما له علاقة ببحثنا هذا إن شاء الله.
(الملاحظة الثَّالثة): وهي دقيقة للغاية؛ وقد تخفى على أكثر النَّاس، وهي في قوله: "وكان عبد الرَّحمن بن مهديٍّ وغيره يسمُّونهم "الفقريَّة"، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم "؛ وفيها أمران:
الأوَّل: أنَّ الإمام ابن مهديٍّ وغيره من أئمَّة النَّقد والرِّجال، قد سمُّوا هذا (الهُجيميُّ)؛ وكذا أتباعه من أهل التَّصوُّف بـ "الفقريَّة". وهذا من ضمن الأسماء الشَّهيرة لطبقة الزهَّاد؛ فإنَّهم كانوا يسمُّون بالشَّام "الجوعيَّة"، وكانوا يسمُّون بالبصرة "الفقريَّة" و"الفكريَّة"، وكانوا يسمُّون بخراسان "المغاربة"؛ وكانوا يسمُّون أيضاً بـ "الصُّوفيَّة والفقراء"(18).
وهذا النَّقل المحكى عن ابن مهديٍّ ذو أهميَّة بالغة هنا، فمن المؤسف جدًّا أنَّنا لم نعثر عليه في أيِّ مكان، أو في أيِّ مصدرٍ أو مرجعٍ، فيكون من النَّوادر التي حفظها لنا شيخ الإسلام تمام الحفظ مع تمام الضَّبط؛ جزاه الله خيراً.
والثَّاني: تأكيده ــ أي ابن مهديٍّ ــ في اتِّخاذ هؤلاء وبالخصوص (الهجيميُّ) دويرة لهم، وكأنَّ أهل الأخبار ممَّن نقل هذا كالذَّهبيِّ وغيره قد حكوا هذا من قوله؛ أي من قول ابن مهديٍّ هذا رحمه الله.
وبالجملة: فإنَّنا نستنبط من هذا النَّقل النَّادر النَّفيس؛ عدَّة أمور منها:
(أوَّلا): يتقرَّر عندنا ابتداءً: أنَّ الأصل في كلِّ من اتَّخذ دُويْرةً ما ــ أو زاويةً ما ــ أن يكون على منهج أهل الأهواء أو صاحب بدعةٍ محدثة، كما هو الحال مع (الهُجيميِّ) ذاك؛ فإنَّه كان يتكلَّم في القدر وداعية إليه، وكذلك كان تلميذه وصاحبه أحمد بن غسَّان البصريِّ العابد (ت:230هـ)؛ فقد بنى كما قال الإمام الذَّهبيُّ في "تاريخه" (5/511): "داراً للزهَّاد، وكان يعظ ويتكلَّم على الأحوال بعد شيخه، ولكن كان يقول بالقدر". ونحوه في "السِّير"(8/128)؛ فقال: "وجلس في المشيخة بعده ابن غسَّان فوقف داراً لنفسه". وغيرهما كثير؛ ممَّن اتَّخذ لنفسه دويرة أو زاوية ــ أو كما تسمَّى بالفارسيَّة أيضا بـ "الخانقاء" أو "الخانكاء" ــ في زمانهما أو في زمن من أتى بعدهما، من جملة هؤلاء المتصوِّفة والطُّرقيَّة ممَّن كان على مذهب الإستشراق، أو على مذهب الحلول، أو على مذهب الإتِّحاد، أو على بدعة الأشعريَّة فقط، أو على بدعة العبادات المستدركة على المشرِّع كالأوراد والأحزاب وغيرها، أو على بدعة القبوريَّة وما فيها من كفرٍ وشرك. فالواحد من هؤلاء: أصحاب المذهب، أو أصحاب الطَّرائق؛ إلاَّ واتَّخذ لنفسه ــ أو من الممكن أيضاً أنَّه قد اتُّخذ له ذلك من غيره؛ من الأتباع أو من المريدين ــ دويرة أو زاوية، من أجل نشر مذهبه ذاك أو طريقته تلك. فكلُّ من هؤلاء عند التَّحقيق والتَّدقيق في تراجمهم الكثيرة والمستفيضة عند قومهم وعند أهل النَّقد؛ تراهم حتماً قد تلبَّسوا ببدعةٍ ما ممَّا ذكرناه آنفاً.
ثمَّ يجب الإنتباه هنا كثيراً إلى الفرق الواقع ما بين اتِّخاذ أهل السنَّة داراً للعلم، كما وقَّف (سابور بن أزدشير) "داراً للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وجعل فيها كتباً كثيرة جدًّا، ووقَّف عليها غلَّة كبيرة فبقيت سبعين سنة، ثمَّ أحرقت عند مجئ الملك طُغْرُلْبَك في سنة خمسين وأربعمائة"(19). وقال ابن الأثير(20): "بنى أبو نصرٍ سابور بن أردشير ببغداد داراً للعلم، ووقف فيها كتباً كثيرة على المسلمين المنتفعين بها". وكذا فعل أبو الفرج البصريُّ؛ قال السِّلَفيُّ: "كان من أجلاَّء القضاة، وبنى داراً للعلم بالبصرة في غاية الحسن والزَّخرفة، ووقف بها اثني عشر ألف مجلَّدة، ثمَّ ذهبت عند فتنة العرب والتُّرك لمَّا نهبت البصرة"(21). وكذلك فعل بالمثل أبو زكريَّا الحفصيُّ وأبو القاسم عليُّ بن مهاجر بالموصل، وكذلك ما فعله العلاَّمة ابن باديس من اتِّخاذه داراً للحديث بتلمسان؛ وغيرهم.
وبين اتِّخاذ أهل البدعة داراً للعبادة على زعمهم الكاذب؛ كمثل الزَّوايا المنتشرة في بعض الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، وخاصَّة منها المغرب والجزائر؛ فإنَّ الأصل فيها وفي تأسيسها وبناءها هو فقط من أجل نشر هذه البدعة المحدثة، والتي انفردوا بها عن غيرهم من جماهير الإسلام، وخالفوا فيها كذا صاحب الشَّرع.
فالفرق واضح في اتِّخاذ هؤلاء داراً وهؤلاء داراً، إذ الأولى من أجل العلم ونشره والحفاظ عليه رواية ودراية، والثَّانية من أجل البدعة ــ المتمثِّلة في (الطَّريقة!!؟) ــ ونشرها وازدهار مريدها وأموالها كما هو الواقع.
(ثانيا): وهي أنَّه قبل تأسيس هذه (الدويرة!!!) أن يكون صاحبها ــ أو على الأقلِّ أن يجعل من نفسه ــ أستاذاً لهذا الجديد المحدث الذي انفرد به، أو شيخا أو مقدَّماً ــ بلغة أهل الزَّوايا ــ، وبغضِّ النَّظر عن علمه كما هو الحال بالنِّسبة لهذا الهجيميُّ، أو جهله كما هو الحال لغالب أهل الطَّرائق؛ فإنَّهم من أجهل النَّاس بالتَّوحيد، ومن أبعدهم عن مقاصده ومقاصد الأنبياء وخاتمهم صلَّى الله عليه وسلَّم.
(ثالثاً): وهو في إطلاق على هؤلاء المتصوِّفة أو أصحاب الطَّرائق الكثيرة بما هو مشهوراً عندهم ــ أو عليهم ــ قديماً وحديثاً بـ (الفقراء!!!)، وهذا لقبٌ فضفاضٌ كبير، فيه ما فيه، وقد يكون لصيقاً بالأوائل أمثال إبراهيم الأدهم والمحاسبيُّ والجنيد ومن على شاكلتهم، وأمَّا متأخِّريهم فقد فضح شيخ الإسلام كذبهم وزيفهم في كثيرٍ من مناسبة ورسالة، وكذلك فعل تلميذه ابن القيِّم.
ويعجبني هنا ما قاله علاَّمة الجزائر البشير الإبراهيميُّ ــ رحمه الله ــ في "سجل مؤتمر الجمعيَّة"(ص/30و31)؛ قال: "قلعةٌ محصَّنة تؤوي كلَّ فاسقٍ وكلَّ زنديقٍ وكلَّ ممخرقٍ وكلَّ داعرٍ وكلَّ ساحرٍ وكلَّ لصٍّ وكلَّ أفَّاكٍ أثيم، وأنظر "طبقات الشَّعراني الكبرى" وما طبع على غرارها من الكتب تجد أصناف المُحتَمين بهذه القلعة ــ وهم ببركة حماتيها ــ طلقاء من قيود الشَّريعة.
وأنَّ هذه القلعة لهي المعقل الأسمى والملأ الأحمى لأصحابنا اليوم، فكلُّ راقصٌ صوفيٍّ، وكلُّ ضاربٌ بالطَّبل صوفيٍّ، وكلُّ عابثٌ بأحكام الله صوفيٍّ، وكلُّ آكلٌ للدُّنيا بالدِّين صوفيٍّ، وكلُّ ملحدٌ في أيات الله صوفيٍّ...".
وأيضاً ما جاء في "الصِّراع بين السنَّة والبدعة"(ص/53) للشَّيخ أحمد حمَّاني.
فأين الفقر وأين الفقراء؟!!
والله المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
وصلَّى الله على نبيِّه محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.

كتبه بقلمه راجي عفو ربِّه: أبو حامد الإدريسي
يوم الجمعة 15 شوَّال 1439هـ الموافق لـ 29 جوان 2018م


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
(1) مع التصرُّف في النصِّ حسب الحال.
(2) أنظر "سير أعلام النُّبلاء"(8/127) و"تاريخ الإسلام"(5/21) و"المغني في الضُّعفاء"(1/47) و"ميزان الإعتدال"(1/119).
(3) أنظر "السِّير"(8/127).
(4) أنظر نفس المصدر (8/128).
(5) أظنُّ ــ والله أعلم ــ أنَّها نسخت خطأ، والصَّواب: "الصُّوفيَّة". أو ممكن هي صحيحة وأراد بها أهل الصفَّة؛ فقال: "الصُّوفة".
(6) أنظر "سير أعلام النُّبلاء"(8/128) و"تاريخ الإسلام"(5/21).
(7) خالد بن عبد الرَّحمن العبد البصريُّ القدريُّ شيخ كان بالبصرة. تركه غير واحد، ورماه عمرو بن عليٍّ بالوضع وكذَّبه الدَّارقطنيِّ، وقال فيه ابن عدي: بصريٌّ قدريٌّ. وقد ترجم له الحافظ الذَّهبيُّ مرَّتين؛ وقال: "إنَّما أعدته لكونه يخفي اسم أبيه". انظر: "العلل ومعرفة الرِّجال"(1/374) و"التَّاريخ الكبير"(1/2/165) و"مجروحي ابن حبَّان"(1/281) و"ميزان الاعتدال"(1/633، 649).
(8) أي الإمام الذَّهبيُّ في "السِّير" و"التَّاريخ".
(9) عبد الواحد بن زيدٍ أبو عبيدة البصريُّ (151-160هـ) العابد القدوة شيخ الصُّوفيَّة بالبصرة. وهو ضعيف الحديث؛ قال البخاري: عبد الواحد بن زيدٍ تركوه. وقال النَّسائيُّ: متروك الحديث. وقال ابن حبَّان: كان ممَّن غلب عليه العبادة حتَّى غفل عن الإتقان فكثر المناكير في حديثه.
(10) الإمام الذَّهبيُّ في "السِّير"(8/127) و"التَّاريخ"(5/21).
(11) أنظر "لسان الميزان"(1/221).
(12) أي الإمامين الذَّهبيُّ وابن حجر العسقلانيُّ رحمهما الله.
(13) الدَرْجُ: الذي يُكْتَبُ فيه، وكذلك الدَرَجُ بالتَّحريك. يقال: أنفذته في دَرْجِ الكتاب؛ أي في طَيِّهِ. وهو أيضاً الورق الموصول.
(14) هذه الكنية قد ذكرها الحافظ في "لسان الميزان"(1/221) بما رواه عن ابن الأعرابيِّ، عن محمَّد بن زكريَّا الغلاَّبيِّ، ثنا أحمد بن غسَّان الهجيميُّ، أخبرنا أحمد بن عطاء أبو عمروٍ الهجيميُّ، ثنا عبد الحكم، عن أنسٍ رضى الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما من نبيٍّ إلاَّ وله نظير في أمَّتي؛ فأبو بكرٍ نظير إبراهيم، وعمر نظير موسى، وعثمان نظير هارون، وعليُّ نظيري".
قال الحافظ: أخاف أن يكون الغلاَّبيَّ كذَّبه؛ انتهى.
(15) أنظر "التَّلخيص في معرفة الأشياء"(ص:169) لأبي هلال العسكريِّ و"المذكَّر والمؤنَّث"(ص/4) لأبي الحسين الكاتب
(16) أخرجه ابن جرير في "التَّفسير"(2/121)، وقال السُّيوطي في "الدُّر المنثور"(1/502): أخرجه وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحَّاس في "ناسخه" والحاكم وصحَّحه، والبيهقي في "سننه".
(17) بلهجيم: كلمةٌ مركَّبة في الأصل من (بني الهجيم)؛ والهُجيم: بضمِّ الهاء وفتح الجيم والياء السَّاكنة آخر الحروف، وفي آخرها الميم. نسبة إلى محلَّة بالبصرة نزلها بنو هجيم فنسبت المحلَّة إليهم. أنظر "الأنساب"(12/309).
(18) أنظر "مجموع الفتاوى"(10/368) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة.
(19) أنظر "البداية والنِّهاية"(12/24) لابن كثير.
(20) أنظر "الكامل في التَّاريخ"(7/461).
(21) أنظر "تاريخ الإسلام"(34/307) للذَّهبي.

رد مع اقتباس