عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27 Oct 2018, 02:13 PM
مصطفى قالية مصطفى قالية غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2018
المشاركات: 26
افتراضي تنبيهات مهمات لإبعاد الشبهات حول طليعة المقالات




تنبيهات مهمات لإبعاد الشبهات حول طليعة المقالات

رحم الله سلفنا الصالح فلقد كان في سيرتهم دروس للمتبصرين وفي حياتهم عبر للمعتبرين، ولا يحتاج من يريد الوقوف على ذلك إلى تكلف بحث أو إلى جهد أو مشقة بل ذلك أمر يجده مباشرة كل من طالع شيئا من سيرهم العطرة.
وممّا أريدُ تسليط الضوء عليه أمر ضرب فيه سلفنا الصالح أروع الأمثلة، وهو حالهم إذا وجه إليهم الانتقاد أو عورضوا في قضية ما.. فأقول.. لا يخلو الأمر من حالتين:
إمّا أن يكون الصواب مع المُنتقِد، وإمّا أن يكون المنتَقِد مُخطئا.
ففي الحالة الأولى: وهي إذا كان الصواب مع المنتقِد كان موقفهم واحدا وهو الرجوع عن خطئهم إلى الحق مباشرة دون تلكّؤ أو تماطُل أو تحجج بالقصد والنيات، سواء كان من انتقدهم مريدا النصيحة لله، أو قصده عيب المنصوح، أو قصده إظهار نفسه، وسواء كانت النصيحة بأدب وحسن عبارة، أو كانت بعبارات شديدة، وسواء كان الناصح مساو للمنصوح في العلم، أو في السنّ، أو كان دونه، فالحق ضالّة المؤمن وحيثما وجده أخذه وتمسّك به، فينتفع هو باتّباعه الحق، وأمّا الناصح فانتفاعه بنصحه من عدمه مقيد بقصده حسنا كان أو سيّئا، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، وفي صحيح البخاري قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان»، فأقر نبينا صلى الله عليه وسلم الحق مع أن قائله شيطان! وفي هذا قال شيخ الإسلام رحمه الله وهو يبين تعامله في قبول الحق حتى من أهل الضلال: «وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله - من المتكلمين وغيرهم - يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره؛ ولكن الحق يقبل مِن كلِّ مَن تكلّم به؛ وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه، الذي رواه أبو داود في سننه: «اقبلوا الحق من كل من جاء به؛ وإن كان كافرا -أو قال فاجرا- واحذروا زيغة الحكيم» [مجموع الفتاوى (5/101-102)].

وللأسف فإنّ كثيرا ممّن جاء بعد هؤلاء الأخيار قد يمنعهم ما بينهم وبين الناصحين من الجفاء من قبول الحق الذي معهم، وهذا خلاف الهدي، الذي من مقتضياته قبول الحق ولو كان مع العدو والبغيض، ورد الباطل ولو كان مع الوليّ والحبيب، قال ابن القيم رحمه الله: «والاختلاف المذموم: كثيرا ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به بل يجحده إياه بغيا ومنافسة فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين، بخلاف أهل الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به فيأخذون حق جميع الطوائف، ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[البقرة213]، فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختلف فيه من الحق. فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلا وأقومهم قيلا»، [الصواعق المرسلة (ص 515-516)].

وأما ما ورد عن سلفنا من قبولهم الحق ولو من الصغير فكثير أقتصر على قصّة واحدة ذكرها الخطيب وغيره، ففي تاريخ بغداد (2/324-325) قال: «أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي، قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: أُلهِمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت اختلف إلى الداخلي وغيره، وقال يوما فيما كان يقرأ للناس: «سفيان عن أبي الزبير، عن إبراهيم»، فقلت له: يا أبا فلان إنّ أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم منّي وأحكم كتابه، فقال: صدقت، فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة»، فقبِل منه هذا الشيخ المحدث الكبير وهو ابن أحد عشرة سنة! ولم يضره أنه صحح له هذا الخطأ وهو بين طلابه!

والحالة الثانية: أن يكون المنتقِد مخطئا فهنا يُردّ عليه خطؤه وينصح ببيان الأدلة والحجج فإن رجع المنتقِد إلى الصّواب والحق فهذا ما يُرجى، وإلا فقد أدى النّاصح ما عليه ثم تكون المعاملة معه بحسب حاله وأصوله.
ثم إن كان الخلاف بين من اتفقت أصولهم رُغِّب كل من الطرفين بترك الفرقة وما يؤدّي إليها، وذلك بالتحاكم للكتاب والسنة لا لغيرهما، وترك التعصب المقيت للأشخاص، فلقد أهلك التعصب أقواما من الناس، قال ابن القيم رحمه الله: «وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى، يقر بعضهم بعضا عليه، ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم،...فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة وعرضت على الحاكم الذي لا يجور وهو كتاب الله وسنة رسوله، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال وما هو أقرب إليه، والخطأ وما هو أقرب إليه،...وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة، ولا افتراقا في الكلمة، ولا تبديدا للشمل، فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع...فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغنا، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه، فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق»، [الصواعق المرسلة (ص 516-518)].

وبعد ذلك لا يلزم أن يكون الاعتذار والرجوع من المخطئ أوّلا، بل أيهما سبق وسعى للصلح والإصلاح كان خير الطرفين عند الله، ففي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
ومن الوقائع التي تزين بها تاريخنا ما قصه الذهبي في السير (10/16)، فقال: «قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة»، لا إله إلا الله لو كنّا على بعض هذه الأخلاق لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التهاجر والتدابر والتقاطع بل والتقاتل، وغير هذا من المنكرات ثم يقال إنها أزهى الأيام، حقّا إنها أزهى الأيام للشيطان الذي غاية سعادته في التحريش بين المسلمين. والله المستعان.

ثم إني أقول لمن ظن أن تقديم النصيحة للمنصوح - كائنا من كان - وعدم قبول قوله دلالة على الطعن والقدح فيه وعدم احترامه! لقد شابهتم الصوفية لما قالوا لأهل الحق والدليل أنتم لا تحبّون محمدا صلى الله عليه وسلم وتطعنون فيه، لما لم يرضوا الغلو فيه! وشابهتم المقلدة من أصحاب المذاهب لما قالوا لأهل الحق والدليل أنتم تطعنون في الإمام مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة لما لم يرضوا أخذ قولهم مجردا عن الدليل! وجهل هؤلاء المساكين أن أهل الحق والدليل أشد الناس محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأشد محبة لهؤلاء الأئمة الأعلام، فدليل المحبة الحقة هو الاتباع بحق، لذا قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

ومقلدة اليوم جهلوا كما جهل أولئك أننا أشد محبة لبعض من ينتقدون -وأخص بالذكر شيخنا فركوس- فو الله إن له في القلب مكانة كبيرة، ولنحن أشد حرصا على الخير له منهم، ولكن ما تعلمناه منه ومن غيره أن الحق أحق أن يتبع، ولا يسلم العالم مهما علت منزلته وكثر علمه من الخطأ إذ هذا مقتضى البشرية، ومن اعتقد غير هذا فقد أساء للشيخ حيث وضعه في موضع لا ينبغي له.
وهؤلاء المساكين أخطئوا حين ظنوا أن المحبة تقتضي نصرة رأي المحبوب ورد قول كل من يخالفه في كل الأحوال، وهذه نصرة جاهلية لا تجوز. في حين أن النصرة الحقيقية تكون بتأييد الحق ورد الباطل، ولو كان صادرا من المحبوب، ويكون حينها قد انتصر لمحبوبه، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: «تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره» أخرجه البخاري ومسلم.
نسأل الله أن يهدينا ويهدي قومنا وأن يصلح أحوالنا، ويجمع على الحق كلمتنا، وأن يعيننا على نصرة دينه النصرة الحقيقية، وليس النصرة الجاهلية، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كتبه:
مصطفى قالية
17 صفر 1440 هـ


التعديل الأخير تم بواسطة مصطفى قالية ; 27 Oct 2018 الساعة 07:34 PM
رد مع اقتباس