عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 29 Jun 2010, 09:50 AM
حسن بوقليل
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي قصف البناء المشيد لتحليل الغناء ـ وقفات مع الشيخ الكلباني ـ الحلقة (02)

قصف البناء المشيد لتحليل الغناء ـ وقفات مع الشيخ الكلباني ـ
الحلقة (02)


6 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(فليس في شرع الله تعالى أن لا يستمتع الإنسان بالصوت الندي الحسن، بل جاء فيه ما يحث عليه ويشير إليه، كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: علمها بلالا، فإنه أندى منك صوتا).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
لكن الصوت الحسن الندي؛ يكون من الجارية الحسناء! ومن الأمرد الحسن! ومن المؤذن! والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر المؤذن، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أَندَى صَوتًا مِنكَ": "أي أقعَد في المدِّ والإطالة والإسماع؛ ليَعُمَّ الصَّوت ويطول أمَدُ التَّأذين" ["فتح الباري": (2/115)].
وهذا المقام أشبه باستدلال القشيري بحديث: "حَسِّنُوا القُرآنَ بِأَصوَاتِكُم"؛ قال: "دل هذا الخبر على فضيلة الصوت"! فقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "هذا دل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله، لم يدل على فيلته بالغناء، ومن شبه هذا بهذا فقد شبه الباطل بأعظم الحق" ["الاستقامة": (ص 290)].
وقد مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا موسى الأشعري بحسن صوته؛ فقال: "لَو رَأَيتَنِي وَأَنَا أَستَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ البَارِحَةَ! لَقَد أُوتِيتَ مِزمَارًا مِن مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ". [فقال أبو موسى: لو علمتُ مكانَك؛ لحبّرت لك تحبِيرًا] [البخاري (5048)، ومسلم (793) وابن حبان (7153 ـ التعليقات الحسان) والزيادة له].
وقد جاء الأمر بتحسين الصوت، لكن!! في قراءة القرآن، لا في الغناء؛ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصوَاتِكُم؛ فَإِنَّ الصَّوتَ الحَسَنَ يَزِيدُ القُرآنَ حُسنًا" [انظر تخريجه في "أصل صفة الصلاة" للمحدث الألباني (1/ 750].
فهل ورد حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحسين الصوت في غير ذَين؟!
بل قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ" [البخاري (5024)، ومسلم (792)].
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "وهذا القرآن الَّذي هو كلام الله، وقد ندب النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تحسين الصَّوت به، ... ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يقرِن به من الألحان ما يقرِن بالغناء من الآلات وغيرها؛ لا عند من يقول بإباحة ذلك، ولا عند من يحرمه، بل المسلمون متَّفقون على الإنكار لأن يقرن بتحسين الصَّوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير، وباليد كالغرابيل". ["الاستقامة": (ص 245، 246)].
وهذا الصوت الحسن هو من الأشياء المباحة، التي ينبغي استخدامها فيما يرضي الله ـ عز وجل ـ.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "كون الشيء نعمة لا يقتضي استباحة استعماله فيما شاء الإنسان من المعاصي، ولا يقتضي إلا حسن استعماله، بل النعم المستعملة في طاعة الله يحمد صاحبها عليها ويكون ذلك شكرًا لله يوجب المزيد من فضله، فهذا يقتضي حسن استعمال الصوت الحسن في قراءة القرآن...
فأما استعمال النِّعم في المباح المحض فلا يكون طاعةً، فكيف في المكروه أو المحرَّم، ولو كان ذلك جائزًا لم يكن قربةً ولا طاعةً إلا بإذن الله، ومَن جعله طاعةً لله بدون ذلك فقد شرع من الدِّين ما لم يأذن به الله". ["الاستقامة": (ص )].

7 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(وإنما عاب الله تعالى نكارة صوت الحمير، "إِنَّ أَنكَرَ الأَصوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ"، ومن المثير للتأمل أن الإشارة إلى نكارة صوت الحمار جاء في نفس السورة التي يستل منها المحرمون للغناء دليل تحريمه!).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
قال تعالى: "وَاغضُض مِن صَوتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ" [لقمان: 19]، قال ابن كثير: "أي: لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتَك فيما لا فائدة فيه؛ ولهذا قال تعالى: "إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"، قال مجاهد وغير واحد: إنَّ أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي: غاية مَن رفع صوتَه أنَّه يُشَبَّهُ بالحمير في علوِّه ورفعِه، ومع هذا هو بغِيضٌ إلى الله تعالى.
وهذا التَّشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمَه وذمَّه غاية الذَّمِّ؛ لأنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لَيسَ لَنَا مَثَلُ السَّوءِ؛ العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيئِهِ"" اهـ.
فالمبالغة في رفع الصوت مذمومة؛ إذ فيها تشبه بالحمير، وهذا حاصل في الغناء.
ويبن قتادة سبب ذلك؛ فيقول ـ فيما رواه عنه ابن جرير ـ: "(إِنَّ أنكَرَ الأَصوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ) أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أوَّله زَفِيرٌ، وآخِره شهِيقٌ، أمره بالاقتصاد في صوته". ["تفسير الطبري": (18/564)].
ويقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: "فلو كان في رفع الصَّوت البلِيغ فائدةٌ ومصلَحةٌ، لما اختَصَّ بذلك الحِمارُ، الَّذي قد علمت خِسَّته وبلادَته". ["تيسير الكريم الرحمن": (ص 649)].
إذن فنكارة الصَّوت الَّتي عابها الله ـ عز وجل ـ قد تطال الصَّوت الحسن! إذ شابه صوت الحمار؛ بأن يكون على الوصف الذي ذكر أهل التفسير.
فكون الشيخ ـ سدده الله ـ يستدل على جواز الغناء بأن الله مدح الصوت الحسن وعاب الصوت القبيح كصوت الحمار، ليس صحيحا على الصورة التي أرادها.
وإلا؛ فقد يكون صوت القارئ! ـ مثلا ـ غير الحسن جميلا إذا كان أداؤه حسنا؛ قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "ولقد أدرَكنَا من شيوخنا مَن لم يكن له حسن صوت، ولا معرِفة بالألحان، إلا أنَّه كان جيِّد الأداء، قيِّمًا باللفظ، فكان إذا قرأ أطرب المسامِع، وأخذ من القلوب بالمجامِع، وكان الخلق يزدحِمُون عليه، ويجتمعون على الاستِماع إليه؛ أُمَمٌ من الخواصِّ والعوام، يشترك في ذلك من يعرف العربي، ومن لا يعرفه من سائر الأنام، مع تركهم جماعاتٍ مِن ذوي الأصوات الحِسان، عارفين بالمقامات والألحان؛ لخروجهم عن التَّجويد والإتقان". ["النشر": (1/212، 213)].
إذًا؛ فالصوت الحسن نعمة يجب على الإنسان أن يصرفها في طاعة، "والتحريم للصوت ـ فضلا عن الحسن ـ في "الغناء" كالتحريم لاستعمال حسن الصورة، والجمال في "الفواحش"، والتلذذ بالنظر إليها.
وبهذا تعلم أن النعم محن، والسعيد من استعملها في طاعة الله.
وعليه: فالصوت نعمة، وحسنه خِلقة: فضيلة لا يجوز استعمالها في منهي عنه، ومن شكرها استعممالها في طاعة الله". ["بدع القراء": الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد ـ رحمه الله ـ: (ص 40)].
وربما يكون ذكر صوت الحمار في نفس السورة التي فيها تحريم الغناء إشارة إلى أن أهل الغناء شابهوا الحمير في رفع أصواتهم، وفضاعتها، وبشاعتها، والله أعلم.

8 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(ومن غير المعقول أن يطلب الله من الإنسان بعد أن أودع فيه هذه العاطفة نزعها أو إماتتها من أصلها, وموقف الشرائع السماوية من الغرائز هو موقف الاعتدال، لا موقف الإفراط ولا موقف التفريط, وهو موقف التنظيم لا موقف الإماتة والانتزاع، فكل صغير أو كبير، يميل إلى سماع الصوت الحسن، والنغمة المستلذة إنما هو نتيجة طبيعية لهذه الغريزة التي خلقها الله وأداء لحقها).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
هذه آفة العقلانيين!! (من غير المعقول) كذا، وكذا!!
أليس الله ـ عز وجل ـ أودع فينا أشياء كثيرة يحبها الإنسان، ويركن إليها؟
فجاءت الشريعة بـ(موقف التنظيم) ـ كما ذكر ـ، وتحريم الغناء من هذا الباب؛ فإن الإنسان يحب اللهو واللعب، ولو ترك له العنان لضل، ولهذا حرم الله ـ عز وجل ـ الغناء، وهذا لا ينافي ما ذكر؛ بل هو عين العين، والتنظيم.
وكون الشيء لذيذا، أو مشتهى، أو مما تستروح إليه النفوس لا يدل على كونه حلالا ولا حراما، ولهذا ذم الله من اتبع الشهوات، وذم من تقرب إليه بترك ما أباحه منها؛ فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم وَلاَ تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعتَدِينَ"، وقال النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنَّفر الَّذين قال أحدُهم: أمَّا أنا؛ فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمَّا أنا؛ فأقوم ولا أفتُر، وقال الآخر: أمَّا أنا؛ فلا أتزوَّج النِّساء، وقال الآخر: أمَّا أنا؛ فلا آكُل اللَّحم، فقال: "لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحمَ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي"". ["الكلام على مسألة السماع": (ص 356، 357)].

9 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(وقد ذكر الأطبَّاء منذ القِدم أن الصَّوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق فيصفو له الدم وتنمو له النفس ويرتاح له القلب وتهتز له الجوارح, وتحن إلى حسن الصوت الطيور والبهائم, ولهذا يقال إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء, وقال الشاعر:
والطير قد يسوقه للموت إصغاؤه إلى حنين الصوت).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
من هؤلاء الأطباء؟ أبِنهم لنا؛ هل هم موثوقون؟ هذا أوَّلا.
وثانيا: "كون الشيء ينتفع به ليس دليلا على جوازه"؛ فها هو الخمر انتفع به الناس ـ اقتصاديا ـ "وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ"، لكنَّه محرم.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "وكذلك ابن سينا في "إشاراته" أمر بسماع الألحان، وبعشق الصور، وعل ذلك مما يزكي النفوس، ويهذبها، ويصفيها، وهو من الصابئة الذين خلطوا بها من الحنيفية ما خلطوا، وقبله الفارابي كان إماما في صناعة التصويت، موسيقاويا عظيما". ["الاستقامة": (ص 239، 240)].

10 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(وذكر الحكماء قديما أن النفس إذا حزنت خمدت نارُها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت.
فالصوت الحسن مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
الصوت الحسن إذا استعمل في تلاوة القرآن كان له وقع على القلب، وأخذ بمجامع النفس، وهذا عند من "إذا تليت عليهم آياته زادهم إيمانا"، فسماع القرآن تطمئن القلوب له وبه؛ قال تعالى: "أَلاَ بِذِكرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ".
أما أهل السماع المحدث؛ فإنهم يجدون لذة في سماع الغناء لا يجدونها في سماع القرآن، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "وكذلك قد يفضلونه على سماع القرآن إذا رأوا أنه ما يحصل بسماع الألحان أكثر مما يحصل بسماع القرآن، وهم في ذلك يضاهون لمن يوجب من الكلام المحدث ما يوجبه، ولمن يفضل ما فيه من العلم على ما يستفاد من القرآن والحديث". ["الاستقامة": (ص 236)].
قال الغزالي ـ رحمه الله ـ مؤكدا هذه الحقيقة الصوفية ـ: "فاعلم أن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن من سبعة أوجه". ["الإحياء": (6/1172)]، ثم ذكرها، وهي أوجه باطلة.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "فنناشد أهل السماع بالله الذي لا إله إلا هو: هل لهم في السماع مثل هذا الذوق، أو شيء منه؟ نناشدهم بالله: هل يدعهم السماع يجدون هذا الذوق في الصلاة، ونحن نحلف عنهم أن ذوقهم ضد هذا الذوق، ومشربهم ضد هذا المشرب، ولولا خشية الإطالة لذكرنا نبذة من ذوقهم تدل على ما وراءها، ولا يخفى على من له أدتى حياة قلب، الفرق بين ذوق الأبيات وذوق الآيات، وبين ذوق القيام بين يدي رب العالمين والقيام بين يدي المغني، وبين ذوق اللذة والنعيم بمعاني ذكر الله وكلامه، وذوق معاني الغناء الذي هو رقية الزنا والتلذذ بمضمونها، فما اجتمع ـ والله ـ الأمران في قلب إلا وطرد أحدهما صاحبه، ولا تجتمع بنت عدو الله وبنت رسول الله عند رجل واحد أبدا". ["الكلام على مسألة السماع": (ص 217، 218)].
كلام جميل، يشفي العليل، ويروي الغليل، فكيف يجتمع في قلب قارئ!! ذوق القرآن، وذوق الغناء؟!

11 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(وقد صح عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، أنه قال: الغناء من زاد الراكب. وكان له مغني [كذا!] اسمه خوَّات ربما غنى له في سفره حتى يطلع السحر. ويعلم كل أحد من عمر؟).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
الأثر رواه البيهقي في "الكبرى" (9182)، وابن وهب ـ كما في "التمهيد" (22/ 197) ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه: سمع عمر رجلا يتغنى بفلاة من الأرض، فقال: الغناء من زاد الراكب.
قال ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ بعد حديث مالك: "فَرَفَعَ بِلاَلٌ عَقِيرَتَهُ" ـ: "وفي هذا الحديث دليل على أنَّ رفع الصَّوت بإنشاد الشِّعر مباح؛ ألا ترى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُنكِر على بلال رفعَ عقِيرَتِه بالشِّعر، وكان بلال قد حمله على ذلك شدَّة تشوُّقه إلى وطنِه؛ فجرى في ذلك على عادته، فلم يُنكِر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه، وهذا الباب من الغِناء قد أجازه العلماء، ووردت الآثار عن السَّلف بإجازته، وهو يسمَّى: غناء الركبان، وغناء النَّصب، والحِداء، هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء". ["التمهيد": (22/196، 197)].
ثم ساق ـ رحمه الله ـ الآثار الدالة على جواز الحداء، ثم قال: "فهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء؛ إذا كان الشِّعر سالما من الفحش والخنى.
وأمَّا الغناء الَّذي كرهه العلماء؛ فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء، وإفساد وزن الشِّعر، والتَّمطيط به طلَبًا للَّهو والطَّرب، وخروجًا عن مذاهِب العَرَب، والدَّليل على صحَّة ما ذكرنا: أنَّ الَّذين أجازوا ما وَصَفنا مِن النَّصب والحِداء هم كرِهُوا هذا النَّوع من الغِناء، وليس منهم من يأتي شيئًا وهو ينهَى عنه".
وقال الطبري: "وهذا النَّوع من الغناء هو المطلَق المباح بإجماع الحجَّة، وهو الَّذي غُنِّي به في بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يَنْهَ عنه، وهو الَّذي كان السَّلف يجيزون ويسمعون.
وإنَّما تسمِّيه العرَبُ النَّصب؛ لنصب المتغنِّي به صوتَه، وهو الإنشاد له بصَوتٍ رفِيعٍ". ["شرح ابن بطال على البخاري": (4/560) بتصرف يسير].
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: "فأكثر العلماء على تحريم ذلك ـ أعني سماع الغناء وسماع آلات الملاهي كلها ـ، وكل منها محرم بانفراده وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العلماء على ذلك والمراد بالغناء المحرم ما كان من الشعر الرقيق الذي فيه تشبيب بالنساء ونحوه مما توصف فيه محاسن من تهيج الطباع بسماع وصف محاسنه فهذا هو الغناء المنهي عنه". ["نزهة الأسماع": (1/25)].
إذًا؛ الأثر ليس فيه دليلٌ على ما أراد الشَّيخ! بل فيه حجة عليه.
وأمَّا أثر خوات؛ فرواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (ص 245) في ترجمته، والبيهقي في "الكبرى" (9185).
وخوات هذا: هو ابن جبير بن النعمان؛ يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا صالح، كان أحد فرسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، شهد بدرا هو وأخوه عبد الله، وقيل: لم يشهد بدر لأنه أصيب في الطريق إليها، فضرب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهمه، ويعد من أهل المدينة، وتوفي بها أربعين وهو ابن أربع وتسعين سنة.
وهو صاحب قصة ذات النحيين في الجاهلية. ["الاستيعاب": (ص 244، 245)].

12 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ــ:
(وقد تنازع النَّاس في الغناء منذ القِدَم, ولن أستطيع في رسالة كهذه أن أنهي الخلاف، وأن أقطع النِّزاع، ولكنِّي أردت فقط الإشارة إلى أنَّ القول بإباحته ليس بِدعا مِن القَول، ولا شذوذًا، بل وليس خروجا على الإجماع، إذ كيف يكون إجماع على تحريمه وكل هؤلاء القوم من العلماء الأجلاء أباحوه؟).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
العبرة في هذا كله بالدليل، ولا يحتج بالخلاف؛ فإن الناس اختلفوا في معنى (لا إله إلا الله) إلى أقوال، مع ذلك؛ فإن الحق فيمن فسرها بـ(لا معبود بحق إلا الله) أو ما قام معناه.
أما الإجماع؛ فقد حكاه الآجري ـ كما سبق في كلام ابن رجب ـ.
وعلى فرض أن المسألة فيها خلاف؛ فهل نترس به؟ أم نبحث عن الدليل؟

13 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(ومن أكبر دلائِل إباحَتِه: أنَّه ممَّا كان يُفعَل إبَّان نزول القُرآن، وتحت سمعِ وبصَر الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأقرَّه، وأمَر به، وسمِعه، وحثَّ عليه، في الأعراس، وفي الأعياد).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
الظَّاهر أن الشَّيخ ـ سدده الله ـ لم يفرِّق بين ما سبق ذكرُه من الحِداء، والنَّصب، وبين الغناء الَّذي يريد إباحتَه!
وقد سبق كلام أهل العلم في الفرق بينهما.
وكونه يفعل والقرآن يتنزل: هذا من أفرى المفتريات؛ فإننا نتحدى الكلباني أن يأتي بأثارة من ذلك، إلا ما كان من باب "يا أنجشة".
وأما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنزه سمعه عن الغناء، وحاشاه أن يقر عليه أصحابه ـ فضلا عن أن يحثهم عليه ـ.
وأما إذنه لهم في الأعراس والأعياد؛ فأترك الحافظ ابن رجب يجيب على هذا الفهم الضعيف؛ قال ـ رحمه الله ـ: "والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس، ويدل عليه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث عائشة المتفق عليه في "الصحيحين": لما دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتدفان، فانتهرهما أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ، وقال: مزمور الشيطان عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "دَعهُما فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ"، فلم ينكر قول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، وإنما علل الرخصة بكونه في يوم عيد؛ فدل على أنه يباح في أيام السرور: كأيام العيد، وأيام الأفراح: كالأعراس، وقدوم الغُيَّاب، ما لا يباح في غيرها من اللهو". ["تفسير ابن رجب": (2/79، 80)].

14 ـ قال الشَّيخ ـ سدَّده الله ـ:
(ومن دلائل إباحته أيضًا: أنك لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصًّا بذلك؛ فلو قرأت الكتب الستة لن تجد فيها باب تحريم الغناء، أو كراهة الغناء، أو حكم الغناء، وإنما يذكره الفقهاء تبعا للحديث في أحكام النكاح وما يشرع فيه، وهكذا جاء الحديث عنه في أحكام العيدين وما يشن فيهما، ولهذا بوب البخاري رحمه الله تعالى: باب سنة العيدين لأهل الإسلام. ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها. أعني حديث الجاريتين وغنائهما بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته).

ـ قال أبو عبد الله ـ عفا الله عنه ـ:
أما قضية النص؛ فسيأتي الكلام على أدلة تحريم الغناء ـ إن شاء الله ـ.
أما تبويب أهل الحديث لحكم الغناء في كتبهم؛ ولا إخال الشيخ اطلع على الكتب الستة! فقد جاء في:
ـ "سنن أبي داود": عقد (باب في النهي عن الغناء) من (كتاب الأدب)، وفيه حديث الجارية التي قالت: "وفينا نبيٌّ يعلَم ما في غَدٍ"، ثم (باب كراهية الغناء والزمر)، وفيه عن نافع قال: سمع ابنُ عمر مزمارًا، قال: فوضع إصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطَّريق، وقال لي: "يا نافِعُ! هل تسمع شيئًا؟ قال: فقلت: لا. قال: فرفَع إصبعيه من أذنيه، وقال: "كنتُ مع النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسمع مثل هذا فصنَع مثل هذا".
ـ "سنن النسائي": عقد (باب الرخصة في الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد) من (كتاب صلاة العيدين)، وساق فيه حديث الجاريتين.
وقول النسائي: (باب الرخصة في الاستماع) مخرَّج على قول ابن رجب السابق.
ـ "سنن ابن ماجه": عقد (باب الغناء والدف) من (كتاب النكاح)، وساق فيه الحديث الذي ساقه أبو داود، وحديث الجاريتين.
وهذا فيه إشارة إلى تحريم الغناء في غير هذا الموطن؛ قال السيوطي في "حاشيته" (1/ 750 ـ ط.ابن أبي علفة): "وفيه دليل على جواز الغناء، وضرب الدف عند النكاح والزفاف للإعلان"، وقال ـ في حديث الجاريتين ـ: "دل الحديث على إباحة مقدار يسير في يوم العيد، وغيره من مواضع يباح السرور فيها، ويكون من شعائر الإسلام؛ كالأعراس والولائم". (1/ 751).
وقد جرت عادة أهل العلم في التبويب لهذا الحكم؛ فـ:
ـ البخاري في "الأدب المفرد" عقد (باب الغناء واللهو)، وفيه عن عبد الله بن دينار قال: خرجت مع عبد الله بن عمر إلى السُّوق؛ فمرَّ على جاريةٍ صغيرة تغنِّي فقال: "إنَّ الشَّيطان لو ترك أحدًا لترك هذه".
ـ وعقد (باب الغناء)، وذكر فيه أثر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ".
ـ البيهقي في "الكبرى" (10/377) عقد (باب الرجل يغني ويتخذ الغناء صناعة يؤتى عليه، ويأتي له، ويكون منسوبًا إليه مشهورًا به، معروفًا، أو المرأة)، ثم ساق الأدلة على تحريم الغناء.
ـ عبد الرزاق في "مصنفه" (11/ 4) عقد (باب الغناء والدف)، ثم ساق حديث الجاريتين.
ـ ابن الأثير في "جامع الأصول" (8/ 453) عقد (الكتاب السادس في الغناء واللهو)، ثم ساق حديث الجاريتين.
هذه بعض تبويبات أهل الحديث، التي تدل على فقههم لتلك الأحاديث المحرمة للغناء، وكون الحديث يذكر في (كتاب النكاح) أو (كتاب البيوع)، أو يعقد له كتاب مستقل لا يهم، وإنما هذا يدل على تعدد فوائده، ولهذا ترى البخاري ـ رحمه الله ـ يقسم الحديث قطعا، على أبواب متفرقة، مما يدل على كمال فههم؛ حتى قيل: "فقه البخاري في تراجمه".
والله أعلم.


التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاذ محمد مرابط ; 11 Jul 2010 الساعة 05:48 PM
رد مع اقتباس