عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31 Mar 2020, 01:33 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 364
افتراضي





هناك مَن ضعّف حديث الافتراق من مشايخ هذا العصر استنادًا لاجتهاد الإمام الشوكاني وابن حزم ومحمد بن إبراهيم الوزير، الذين ضعّفوا زيادة "كلّها في النار إلاّ واحدة"

جاء في سؤال طُرح على موقع إسلامي ، لكنّ السائل ذكر أنّ تضعيف هؤلاء العلماء للحديث كان للزيادة الموجودة فيه وهي " كلها في النار إلا واحدة "


والسؤال الذي طُرح في الموقع هكذا:

السؤال:

كنت أبحث عن صحة حديث الثلاث والسبعين فرقة فوجدت إجابة على موقعكم برقم : (90112) ، حيث ذكر فيها أنّ الحديث صحيح. واتّضح لي أنّ العلماء اختلفوا على قولين في الحديث ، منهم مَن صحّحه، كأبي داود والحاكم وبن حجر وبن تيمية والطبراني والترمذي..الخ لتعدّد الرواية . ومنهم مَن ضعّف زيادة " كلها في النار إلا واحدة " ، وهم ابن حزم والشوكاني ومحمد بن إبراهيم الوزير، وقال : إنّ من رواة الحديث رجل ناصبي. أمّا الإمام محمد بن أحمد البشاري المقدسي فذكر رواية " كلها في الجنة إلا واحدة " وذكر رواية " كلها في النار إلا واحدة " ثم قال : الثانية أكثر شهرة ، والأولى أصح سنداً . وساق الحديث الإمام الترمذي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص وقال حديث غريب . فكيف إذن نوفق بين هذه الأقوال جميعاً ونعرف الصحيح منها؟

فكان الجواب كالتّالي :

الحمد لله

أولا :
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما قَالَ : أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) رواه أبو داود ( 4597 ) والحاكم (443) وصححه ، وحسنه ابن حجر في " تخريج الكشاف " ( ص : 63 ) ، وصححه ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 3 / 345 ) ، والشاطبي في " الاعتصام " ( 1 / 430 ) ، والعراقي في " تخريج الإحياء " ( 3 / 199 ) وقد ورد عن جماعة من الصحابة بطرق كثيرة .

وورد بلفظ: ( ... وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً ، قَالُوا : وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) ، رواه الترمذي ( 2641 ) وحسَّنه ابن العربي في " أحكام القرآن " ( 3 / 432 ) ، والعراقي في " تخريج الإحياء " ( 3 / 284 ) ، والألباني في " صحيح الترمذي " .

ثانيا :

ذكر الشوكاني هذا الحديث في "تفسيره" (2/ 68): ثم قال :

"أَمَّا زِيَادَةُ كَوْنِهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَقَدْ ضَعَّفَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ، بَلْ قال ابن حزم : إنها موضوعة " انتهى .

وقد تعقبه الألباني رحمه الله فيما ذكره فقال :

" ولا أدري من الذين أشار إليهم بقوله : " جماعة ... " فإني لا أعلم أحدًا من المحدثين المتقدمين ضعف هذه الزيادة ، بل إن الجماعة قد صححوها ، وقد سبق ذكر أسمائهم ، وأما ابن حزم فلا أدري أين ذكر ذلك ، وأول ما يتبادر للذهن أنه في كتابه " الفصل في الملل والنحل " وقد رجعت إليه ، وقلبت مظانه فلم أعثر عليه ، ثم إن النقل عنه مختلف ، فابن الوزير قال عنه : " لا يصح " ، والشوكاني قال عنه : " إنها موضوعة "، وشتان بين النقلين كما لا يخفى ، فإن صح ذلك عن ابن حزم ، فهو مردود من وجهين :

الأول : أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة ، فلا عبرة بقول من ضعفها.

والآخر: أنّ الّذين صحّحوها أكثر وأعلم بالحديث من ابن حزم، لاسيّما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده في النقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة فكيف إذا خالف؟ !

وأما ابن الوزير، فكلامه الذي نقله الكوثري يشعر بأنه لم يطعن في الزيادة من جهة إسنادها، بل من حيث معناها، وما كان كذلك ، فلا ينبغي الجزم بفساد المعنى لإمكان توجيهه وجهة صالحة ينتفي به الفساد الذي ادعاه. وكيف يستطاع الجزم بفساد معنى حديث تلقاه كبار الأئمة والعلماء من مختلف الطبقات بالقبول وصرحوا بصحته ؟ هذا يكاد يكون مستحيلاً ... " انتهى .

"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 409)


ثالثا:
روي هذا الحديث بلفظ: ( تَفَرَّقُ أُمَّتِي عَلَى سَبْعِينَ أَوْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ : ( الزَّنَادِقَةُ ، وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ ) . وهذا الحديث بهذا اللفظ موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

رواه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 201) من طريق مُعَاذ بْن يَاسِينَ الزَّيَّاتُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَبْرَدُ بْنُ الْأَشْرَسِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ به مرفوعا ، ثم رواه من طريق يَاسِينَ الزَّيَّاتِ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَخِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَنَسٍ .

ثم قال العقيلي :

" هَذَا حَدِيثٌ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ إِلَى صِحَّةٍ ، وَلَعَلَّ يَاسِينَ أَخَذَهُ عَنْ أَبِيهِ ، أَوْ عَنْ أَبْرِدَ هَذَ ا، وَلَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَلَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ " انتهى .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" هذا الحديث لا أصل له، بل هو موضوع كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ .

بل الحديث الذي في كتب السنن والمساند عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال : ( ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار ) انتهى من "بغية المرتاد" (ص 337).
وقد ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 268) من طرق ، وقال : " هَذَا الحَدِيث لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... إلخ " .

وقال الألباني رحمه الله :

" وهذا المتن المحفوظ [يعني : (كلّهم في النار إلاّ واحدة)] قد ورد عن جماعة من الصحابة ، منهم أنس بن مالك رضي الله عنه ، وقد وجدت له عنه وحده سبع طرق ، وذلك مما يؤكد بطلان الحديث بهذا اللفظ الذي تفرد به أولئك الضعفاء ، وخاصة ياسين الزيات هذا ، فقد خالفه من هو خير منه : عبد الله بن سفيان ، فرواه عن يحيى بن سعيد عن أنس باللفظ المحفوظ " انتهى .

"سلسلة الأحاديث الضعيفة" (3/ 126)


وقال الألباني أيضا في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (1035) : " موضوع بهذا اللفظ " .

أما تصحيح البشاري لهذا الحديث ، فقد ذكره في كتابه "أحسن التقاسيم" (ص 39).

وكان البشاري أحد الرحالة وأشهر علماء الجغرافيا في عصره ، وقد توفي في أواخر القرن الرابع الهجري أو بداية القرن الخامس ، ولم يكن من علماء الحديث حتى يقدم قوله على قول أئمة الحديث . والله أعلم .} انتهـ النقل.


وأقول:

العضو في المنتدى العام (..)، نقل التّضعيف فقط من ذلك الموقع، ولم ينبّه أنّ الكلام منقول، وأوهم النّاس أنّه من اجتهاده في البحث، وقد أراد أن ينتصر لمذهبه الأشعري الصّوفيّ، وذلك بنفي صحّة حديث الإفتراق، ويزعم وضعه، و من غرابة الأمر، أنّ ذلك العضو واقعٌ في الافتراق بنسبته وتعصّبه للمذهب الذي دافع عن أصوله المخالفة للسُنّة وأهلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث له : "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنّواجد" أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

ومن خلال الحديث يظهر جليًّا كيف يكون المسلم مُتّبعًا للرّعيل الأوّل من السّلف الصّالح لأمّة الإسلام ، فقد ناقش ذلك العضو، حديث الإفتراق، بنوع من التّعصّب لمذهب الأشاعرة الصوفي الذي يحمله بعض مشايخ هذا العصر، وكان ذلك التّحيّز، معارضة صريحة لـمَن صحّحوا الحديث، وهم علماء كثيرون، ومنهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين .



أبدأ على بركة الله، سعيًا، بالاستفادة النافعة، للاقناع والاقتناع، الموجبين للتّروّي وحسن القراءة والاهتمام ، بارك الله في الجميع .

أبدأ بحول الله بـ: ردّ الشيخ الألباني رحمه الله على الّذين ضعّفوا الحديث : (الكلام منقول)

قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 358 تحت حديث "ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة...":

أخرجه أبو داود ( 2 / 503 - 504 ) ، و الدارمي ( 2 / 241 ) و أحمد ( 4 / 102 ) و كذا الحاكم ( 1 / 128 ) و الآجري في " الشريعة " ( 18 ) و ابن بطة في " الإبانة " ( 2 / 108 / 2 ، 119 / 1 ) و اللالكائي في " شرح السنة " ( 1 / 23 / 1 ) من طريق صفوان قال : حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني عن أبي عامر عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال : ألا إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال....، فذكره .

و قال الحاكم و قد ساقه عقب أبي هريرة المتقدم : " هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث" . و وافقه الذهبي . و قال الحافظ في " تخريج الكشاف " ( ص 63 ) : " و إسناده حسن " .

قلت : و إنّما لم يصحّحه، لأنّ أزهر بن عبد الله هذا لم يوثقه غير العجلي و ابن حبان و لما ذكر الحافظ في " التهذيب " قول الأزدي : " يتكلمون فيه " ، تعقبه بقوله : " لم يتكلموا إلا في مذهبه " . و لهذا قال في " التقريب " . " صدوق ، تكلموا فيه للنصب " .

و الحديث أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره ( 1 / 390 ) من رواية أحمد ، و لم يتكلم على سنده بشيء ، و لكنّه أشار إلى تقويته بقوله : " و قد ورد هذا الحديث من طرق" .

و لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " المسائل " ( 83 / 2 ) . " هو حديث صحيح مشهور " . و صحّحه أيضا الشاطبي في " الاعتصام " ( 3 / 38 ) .

و من طرق الحديث التي أشار إليها ابن كثير ، و فيها الزيادة ، ما ذكره الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " ( 3 / 199 ) قال : " رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو و حسنه ، و أبو داود من حديث معاوية ، و ابن ماجه من حديث أنس و عوف بن مالك ، و أسانيدها جياد " .

قلت : و لحديث أنس طرق كثيرة جدا تجمع عندي منها سبعة ، و فيها كلها الزيادة المشار إليها ، مع زيادة أخرى يأتي التنبيه عليها ، و هذه هي : الطريق الأولى : عن قتادة عنه . أخرجه ابن ماجة ( 2 / 480 ) ، و قال البوصيري في " الزوائد " : "إسناده صحيح، رجاله ثقات" .

قلت : و في تصحيحه نظر عندي لا ضرورة لذكره الآن ، فإنّه لا بأس به في الشواهد .

الثانية : عن العميري عنه . أخرجه أحمد ( 3 / 120 ) ، و العميري هذا لم أعرفه ، و غالب الظن أنه محرف من ( النميري ) و اسمه زياد بن عبد الله فقد روى عن أنس ، و عنه صدقة بن يسار ، و هو الذي روى هذا الحديث عنه ، و النميري ضعيف ، و بقية رجاله ثقات .

الثالثة : عن ابن لهيعة حدثنا خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عنه . و زاد : " قالوا : يا رسول الله مَن تلك الفرقة ؟ قال : الجماعة الجماعة " . أخرجه أحمد أيضا ( 3 / 145 ) و سنده حسن في الشواهد .

الرابعة : عن سلمان أو سليمان بن طريف عنه . أخرجه الآجري في " الشريعة " ( 17 ) و ابن بطة في " الإبانة " ( 2 / 118 / 2 ) و ابن طريف هذا لم أجد له ترجمة .

الخامسة : عن سويد بن سعيد قال : حدثنا مبارك بن سحيم عن عبد العزيز ابن صهيب عن أنس . أخرجه الآجري ، و سويد ضعيف ، و أخرجه ابن بطة أيضا ، و لكني لا أدري إذا كان من هذا الوجه أو من طريق آخر عن عبد العزيز فإن كتابه بعيد عني الآن .

السادسة : عن أبي معشر عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس به . و فيه الزيادة . أخرجه الآجري ( 16 ) . و أبو معشر اسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي و هو ضعيف . و من طريقه رواه ابن مردويه كما في " تفسير ابن كثير " ( 2 / 76 - 77 ) .

السابعة : عن عبد الله بن سفيان المدني عن يحيى بن سعيد الأنصاري عنه . و فيه الزيادة بلفظ : " قال : ما أنا عليه و أصحابي " . أخرجه العقيلي في "الضعفاء " ( ص 207 - 208 ) و الطبراني في " الصغير " ( 150 ) و قال : " لم يروه عن يحيى إلا عبد الله بن سفيان " . و قال العقيلي : " لا يتابع على حديثه " .

قلت : و هو على كل حال خير من الأبرد بن أشرس فإنّه روى هذا الحديث أيضا عن يحيى بن سعيد به ، فإنه قلب متنه ، و جعله بلفظ : " تفترق أمّتي على سبعين أو إحدى و سبعين فرقة كلّهم في الجنّة إلاّ فرقة واحدة ، قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : الزنادقة و هم القدرية " . أورده العقيلي أيضا و قال :" ليس له أصل من حديث يحيى بن سعيد " و قال الذهبي في " الميزان " : " أبرد بن أشرس قال ابن خزيمة : كذاب و ضاع " .

قلت : و قد حاول بعض ذوي الأهواء من المعاصرين تمشية حال هذا الحديث بهذا اللفظ الباطل ، و تضعيف هذا الحديث الصحيح ، و قد بيّنت وضع ذاك في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " رقم ( 1035 ) ، و الغرض الآن إتمام الكلام على هذا اللفظ الصحيح ، فقد تبيّن بوضوح أنّ الحديث ثابت لا شك فيه ، و لذلك تتابع العلماء خلفًا عن سلف على الاحتجاج به حتى قال الحاكم في أول كتابه " المستدرك " : " إنّه حديث كبير في الأصول "، و لا أعلم أحدا قد طعن فيه ، إلاّ بعض مَن لا يعتد بتفرّده و شذوذه ، أمثال الكوثري الذي سبق أن أشرنا إلى شيء من تنطّعه و تحامله على الطريق الأولى لهذا الحديث ، التي ليس فيها الزيادة المتقدمة : " كلها في النار " ، جاهلا بل متجاهلا حديث معاوية و أنس على كثرة طرقه عن أنس كما رأيت . و ليته لم يقتصر على ذلك إذن لما التفتنا إليه كثيرا، و لكنّه دعم رأيه بالنقل عن بعض الأفاضل، ألا و هو العلامة ابن الوزير اليمني، و ذكر أنّه قال في كتابه : "العواصم و القواصم" ما نصّه: " إياك أن تغتر بزيادة "كلّها في النار إلاّ واحدة" فإنّها زيادة فاسدة، و لايبعد أن تكون من دسيس الملاحدة. و قد قال ابن حزم : إنّ هذا الحديث لا يصح" .

وقفت على هذا التضعيف منذ سنوات. ثم أوقفني بعض الطلاب في " الجامعة الإسلامية " على قول الشوكاني في تفسيره "فتح القدير" ( 2 / 56 ) :
{ قال ابن كثير في تفسيره: و حديث افتراق الأمم إلى بضع و سبعين ، مروي من طرق عديدة ، قد ذكرناها في موضع آخر . انتهى . قلت : أمّا زيادة كونها في النار إلا واحدة " فقد ضعفها جماعة من المحدثين ( ! ) ، بل قال ابن حزم : إنّها موضوعة } .

و لا أدري مَن الذين أشار إليهم بقوله : " جماعة ... " فإنّي لا أعلم أحدا من المحدثين المتقدّمين ضعّف هذه الزيادة ، بل إنّ الجماعة قد صحّحوها و قد سبق ذكر أسمائهم ، و أمّا ابن حزم فلا أدري أين ذكر ذلك ، و أوّل ما يتبادر للذهن أنّه في كتابه " الفصل في الملل و النحل " و قد رجعت إليه ، و قلبت مظانه فلم أعثر عليه ثم إنّ النقل عنه مختلف ، فـابن الوزير قال عنه : " لا يصح " ، و الشوكاني قال عنه : " إنها موضوعة " ، و شتّان بين النّقلين كما لا يخفى ، فإن صح ذلك عن ابن حزم ، فهو مردود من وجهين :

الأول : أنّ النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة ، فلا عبرة بقول مَن ضعّفها .

و الآخر : أنّ الّذين صحّحوها أكثر و أعلم بالحديث من ابن حزم ، لاسيما و هو معروف عند أهل العلم بـتشدّده في النقد ، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرّد عند عدم المخالفة فكيف إذا خالف ؟ !

و أمّا ابن الوزير، فكلامه الذي نقله الكوثري يشعر بأنّه لم يطعن في الزيادة من جهة إسنادها، بل من حيث معناها، و ما كان كذلك، فلا ينبغي الجزم بفساد المعنى لإمكان توجيهه وجهة صالحة ينتفي به الفساد الذي ادعاه. و كيف يستطاع الجزم بفساد معنى حديث تلقّاه كبار الأئمة و العلماء من مختلف الطبقات بالقبول و صرحوا بصحّته ، هذا يكاد يكون مستحيلا !

و إنّ ممّا يؤيد ما ذكرته أمرين:

الأول: أنّ ابن الوزير في كتاب آخر له قد صحّح حديث معاوية هذا ، ألا و هو كتابه القيم : "الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم" فقد عقد فيه فصلا خاصا في الصحابة الّذين طعن فيهم الشيعة و ردوا أحاديثهم، و منهم معاوية رضي الله عنه، فسرد ما له من الأحاديث في كتب السُنّة مع الشواهد من طريق جماعة آخرين من الصحابة لم تطعن فيه الشيعة، فكان هذا الحديث منها !

الأمر الآخر : أنّ بعض المحقّقين من العلماء اليمانيين ممّن نقطع أنّه وقف على كتب ابن الوزير ، ألا و هو الشيخ صالح المقبلي ، قد تكلم على هذا الحديث بكلام جيّد من جهة ثبوته و معناه، و قد ذكر فيه أنّ بعضهم ضعّف هذا الحديث فكأنّه يشير بذلك إلى ابن الوزير . و أنت إذا تأمّلت كلامه وجدته يشير إلى أنّ التّضعيف لم يكن من جهة السند، و إنّما من قبل استشكال معناه، و أرى أن أنقل خلاصة كلامه المشار إليه لما فيه من الفوائد . قال رحمه الله تعالى في " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء و المشايخ " ( ص 414 ) : " حديث افتراق الأمّة إلى ثلاث و سبعين فرقة ، رواياته كثيرة يشد بعضها بعضا بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها . ( ثم ذكر حديث معاوية هذا ، و حديث ابن عمرو بن العاص الذي أشار إليه الحافظ العراقي و حسنه الترمذي ثم قال: (و الإشكال في قوله : "كلّها في النار إلاّ ملة" ، فمن المعلوم أنهم خير الأمم ، و أن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة ، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود حسبما صرحت به الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة، و قال : هي زيادة غير ثابتة. و بعضهم تأول الكلام. قال : و من المعلوم أن ليس المراد من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف ، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة . إنما الكلام في مخالفة تصير صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها. و إذا حققت ذلك فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل ، و فيما يترتب عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر ، و لكنها لم تخص معينا من هذه الفرق التي قد تحزبت و التأم بعضهم إلى قوم و خالف آخرون بحسب مسائل عديدة .

ثم أجاب عن الإشكال بما خلاصته :

" إنّ الناس عامّة و خاصّة ، فـالعامّة آخرهم كأوّلهم ، كالنساء و العبيد و الفلاحين و السوقة و نحوهم ممّن ليس من أمر الخاصة في شيء، فلا شك في براءة آخرهم من الابتداع كأوّلهم. و أمّا الخاصّة، فـمنهم مبتدع اخترع البدعة و جعلها نصب عينيه، و بلغ في تقويتها كلّ مبلغ، و جعلها أصلا يرد إليها صرائح الكتاب و السُنّة، ثم تبعه أقوام من نمطه في الفقه و التّعصّب، و ربّما جدّدوا بدعته و فرعوا عليها و حمّلوه ما لم يتحمّله، و لكنّه إمامهم المقدم و هؤلاء هم المبتدعة حقًا، و هو شيء كبير ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) ، كـنفي حكمة الله تعالى ، و نفي إقداره المكلف، و كـكونه يكلّف ما لا يطاق، و يفعل سائر القبائح و لا تقبح منه، و أخواتهن! و منها ما هو دون ذلك، و حقائقها جميعها عند الله تعالى ، و لا ندري بأيّها يصير صاحبها من إحدى الثلاث و سبعين فرقة.

و من الناس مَن تبع هؤلاء و ناصرهم و قوى سوادهم بالتدريس و التصنيف ، و لكنه عند نفسه راجع إلى الحق ، و قد دس في تلك الأبحاث نقوضها في مواضع لكن على وجه خفي ، و لعله تخيل مصلحة دنيئة ، أو عظم عليه انحطاط نفسه و إيذاؤهم له في عرضه و ربّما بلغت الأذية إلى نفسه. و على الجملة فالرجل قد عرف الحق من الباطل ، و تخبط في تصرفاته ، و حسابه على الله سبحانه، إما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله، أو يقبل عذره، و ما تكاد تجد أحدا من هؤلاء النظار إلا قد فعل ذلك، لكن شرّهم و الله كثير، فلربّما لم يقع خبرهم بمكان، و ذلك لأنّه لا يفطن لتلك اللمحة الخفية التي دسّوها إلا الأذكياء المحيطون بالبحث، و قد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة، و ليس بكبير فائدة أن يعلموا أنّ الرجل كان يعلم الحق و يخفيه. و الله المستعان .

و من الناس من ليس من أهل التحقيق، و لا هيّء للهجوم على الحقائق، و قد تدرب في كلام الناس، و عرف أوائل الأبحاث، و حفظ كثيرا من غثاء ما حصلوه و لكن أرواح الأبحاث بينه و بينها حائل. و قد يكون ذلك لقصور الهمة و الاكتفاء و الرضا عن السلف لوقعهم في النفوس. و هؤلاء هم الأكثرون عددا، و الأرذلون قدرا، فإنّهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة، و لا أدركوا سلامة العامة. فـالقسم الأوّل من الخاصّة مبتدعة قطعا . و الثاني ظاهره الابتداع، و الثالث له حكم الابتداع.

و من الخاصة قسم رابع ثلة من الأولين ، و قليل من الآخرين ، أقبلوا على الكتاب و السُنّة و ساروا بسيرها، و سكتوا عمّا سكتا عنه، و أقدموا و أحجموا بهما و تركوا تكلف مالا يعنيهم، و كان تهمهم السلامة، و حياة السُنّة آثر عندهم من حياة نفوسهم، و قرّة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى، و فهم معانيه على السليقة العربية و التفسيرات المروية، و معرفة ثبوت حديث نبوي لفظا و حكما .

فـهؤلاء هم السُنية حقا، و هم الفرقة الناجية، و إليهم العامة بأسرهم، و مَن شاء ربّك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين، بحسب علمه بقدر بدعتهم و نيّاتهم.

إذا حققت جميع ما ذكرنا لك، لم يلزمك السؤال المحذور و هو الهلاك على معظم الأمّة، لأنّ الأكثر عددا هم العامّة قديما و حديثا، و كذلك الخاصّة في الأعصار المتقدمة، و لعلّ القسمين الأوسطين، و كذا مَن خفت بدعته من الأول ، تنقذهم رحمة ربك من النظام في سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية، و رحمة ربّك أوسع لكل مسلم، لكنا تكلمنا على مقتضى الحديث و مصداقه ، و أنّ أفراد الفرق المبتدعة و إن كثرت الفرق فلعلّه لا يكون مجموع أفرادهم جزءا من ألف جزء من سائر المسلمين : فتأمّل هذا، تسلم من اعتقاد مناقضة الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة " .

قلت: و هذا آخر كلام الشيخ المقبلي رحمه الله ، و هو كلام متين يدل على علم الرجل و فضله و دقّة نظره، و منه تعلم سلامة الحديث من الإشكال الذي أظن أنّه عمدة ابن الوزير رحمه الله في إعلاله إياه . و الحمد لله على أن وفقنا للإبانة عن صحة هذا الحديث من حيث إسناده، و إزالة الشبهة عنه من حيث متنه. و هو الموفّق لا إله إلا هو .

ثم وقفت على كلام لأحد الكتاب في العصر الحاضر ينكر في كتابه " أدب الجاحظ " ( ص 90 ) صحّة هذا الحديث للدفاع عن شيخه الجاحظ ! فهو يقول : " و لو صحّ هذا الحديث لكان نكبة كبرى على جمهور الأمّة الإسلامية. إذ يسجل على أغلبيتها الخلود في الجحيم و لو صح هذا الحديث لما قام أبو بكر في وجه مانعي الزكاة معتبرا إيّاهم في حالة ردّة ... "، إلى آخر كلامه الذي يغني حكايته عن تكلف الردّ عليه، لوضوح بطلانه لاسيما بعد قراءة كلام الشيخ المقبلي المتقدم . على أنّ قوله "الخلود في الجحيم" ليس له أصل في الحديث، و إنّما أورده الكاتب المشار إليه من عند نفسه ليتّخذ ذلك، ذريعة للطّعن في الحديث. و هو سالم من ذلك كلّه كما بينا و الحمد لله على توفيقه .





الصور المرفقة
نوع الملف: png اقتصاد في سنة.png‏ (280.2 كيلوبايت, المشاهدات 5811)
نوع الملف: png لاصلاح إلاّ بلزوم السُنّة.png‏ (629.6 كيلوبايت, المشاهدات 4301)
نوع الملف: jpg عليكم بسنتي.jpg‏ (92.7 كيلوبايت, المشاهدات 4925)
رد مع اقتباس