عرض مشاركة واحدة
  #28  
قديم 16 Dec 2019, 04:03 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





إنّ الله سبحانه، من صفاته العدل، ويحبّ العدل، وقد قسّم النّاس من حيث خضوعهم إلى شريعته، إلى قسم مؤمن بدينه وآياته، وقسم كافر. فأوجب الجزاء لكلا الطرفين، فـأثاب القسم المؤمن فأجزل في المثوبة، وعاقب القسم الكافر وحرمه مايكون سببا في سعادته، وليس هذا إلاّ لجحودهم وكفرهم وعنادهم. وأعظم الحرمان، أن يسلب الله سبحانه، الإنسان، الهداية والتوفيق إلى الأعمال الصّالحة التي قد تكون سبب النّجاة، يوم لاينفعُ مالٌ ولابنون إلاّ مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

فبعد أن ذكر الله عزّ وجلّ في الآية السّابقة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا"، أنّه أنذر النّاس وأراهم كيف يسلكون الطّريق القويم، في كتابه الحكيم، ونبّههم وبيّن لهم ما يمكن أن ينالوه إن استجابوا للرّسول الكريم، في قوله تعالى:"فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175)"، تشجيعًا وتثبيتًا لهم، حتّى لايتردّدوا في سلوك الطّريق المستقيم. لأنّ الإنسانَ يحبّ الإحسانَ، ويحبّ كلّ ما يجلب له الرّاحة والسّعادَة والطّمأنينَة. ولكنّ إدراك السّعادة الحقيقية يتفاوت بتفاوت مستوى فقه الأمر الذي يعين على بلوغها.

قال الشيخ السّعدي مفسّرا للآية: "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"

{ انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي: اعترفوا بوجوده واتّصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. { وَاعْتَصَمُــوا بِـهِ } أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرّأوا من حولهم وقوّتهم واستعانوا بربّهم. { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي: فسيتغمّدهم بـالرّحمة الخاصّة، فيوفّقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات.
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي: يوفّقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به. أي: ومَن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسّك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلّوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة.} انتهـ.

والإمام ابن كثير رحمه الله يفسّر الآية: "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175)"

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي : جمعوا بين مقامي العبادة والتّوكّل على الله في جميع أمورهم . وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن . رواه ابن جرير .
(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ) أي : يرحمهم فيدخلهم الجنّة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم ، من فضله عليهم وإحسانه إليهم ، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) أي : طريقا واضحا قصدا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات ، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : "القرآن صراط الله المستقيم وحبل الله المتين" . وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة.} اانتهـ.



فالله سبحانه يهدي مَن اتّبع طريقه، وخضع لكتابه وسنن أنبيائه . أمّا المعرضون عن آياته، المكذّبون لرسله، فليس لهم جزاء سوى الطّمس على البصيرة، لأنّهم استحبّوا العمى على الهدى، فضلّوا وأضلّوا.
قال الله تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)"

قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الآية:

{ قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) قال ابن عباس : يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بي ، يعني : سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها، عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق ، كقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) .

قال سفيان بن عيينة : سأمنعهم فهم القرآن . قال ابن جريج : يعني عن خلق السماوات والأرض وما فيها أي أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها . وقيل : حكم الآية لأهل مصر خاصة ، وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام . والأكثرون على أن الآية عامة (وَإِن يَرَوْا) يعني : هؤلاء المتكبرين (كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) قرأ حمزة والكسائي " الرشد " بفتح الراء والشين ، والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان كالسقم والسقم والبخل والبخل والحزن والحزن .
وكان أبو عمرو يفرق بينهما ، فيقول : الرُّشد - بـالضم - : الصلاح في الأمر ، وبـالفتح: الاستقامة في الدين . معنى الآية : إن يروا طريق الهدى والسداد (لَا يَتَّخِذُوهُ) لأنفسهم ( سبيلا (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ) أي طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) عن التفكير فيها والاتّعاظ بها غافلين ساهين .} انتهـ.

ويقول الشيخ السعدي في تفسير الآية:

{ (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) أي: عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية، والفهم لآيات الكتاب (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: يتكبرون على عباد اللّه وعلى الحق، وعلى مَن جاء به، فمَن كان بهذه الصفة، حرمه اللّه خيرا كثيرا وخذله، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به، بل ربّما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا) لإعراضهم واعتراضهم، ومحادتهم للّه ورسوله، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي: الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى اللّه، وإلى دار كرامته. (لا يَتَّخِذُوهُ) أي: لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ) أي: الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا.
والسبب في انحرافهم هذا الانحراف ذَلِكَ (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) فردّهم لآيات اللّه، وغفلتهم عمّا يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشد ما أوجب.} انتهـ

تعليق ونقل التفسير: أم وحيد بهية صابرين





الصور المرفقة
نوع الملف: jpg سأصرف عن آياتي.jpg‏ (26.5 كيلوبايت, المشاهدات 2283)
نوع الملف: jpg سورة ابراهيم.jpg‏ (88.7 كيلوبايت, المشاهدات 1601)
نوع الملف: jpg قد جاءكم برهان.jpg‏ (41.8 كيلوبايت, المشاهدات 1562)
رد مع اقتباس