عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23 Nov 2015, 12:58 AM
عبد القادر شكيمة عبد القادر شكيمة غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2015
الدولة: الجزائر ولاية الوادي دائرة المقرن
المشاركات: 315
افتراضي القول الحق المبين في تفسير آية سبيل المؤمنين

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
إن المتأمل في حياة الناس الدنيوية اليوم يجدهم يهتمون أيَّما اهتمام بالمناهج والخطط التي تعينهم على إنجاز ما يحتاجونه على أحسن ما يكون وأفضل ما يبغون، فمن أراد بناء سكن مثلا، أتى بورقة وقلم، وخط عليها تصميما لبيت جميل، وإذا ما أتى البنَّاء ليرفع البِنَاء، طالب - قبل أن يبدأ- بالمخطط الذي سيسير عليه؛ ليكون بمثابة الدليل؛ كي لا يضل السبيل. وإذا ما سوّلت لأحدهم نفسُه أن يبني دون أن يخطط، انهال عليه وابلٌ من الكلام، يحمل في طياته مرير الملام، فمن قائل: بنَّاء فاشل, ومن مستهزئ: هذا ليس بعاقل، فإذا ركب رأيه واتبع نفسه، وقطع شوطا في البناء، ركبته الحيرة وأرهقه العناء، ووقف يفكر ساعات: هذا الجدار لا يقام في هذا المكان، فيجب هدمه الآن، وبيت الخلاء أخطأت مكانه؛ فإنه إلى غرب البيت أنسب؛ ليكون للمطبخ أقرب, وليس هذا مكان باب الدار؛ لأنه إذا ما بنى الجار، طالب بسدّه, وهكذا يضيع ماله ووقته في البناء والهدم, تائها بين الحسرة والندم.
إن مَثَل هذا كمَثَل من ادّعى اتباعَ كتابِ الله وسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يبحث عن المنهج الصحيح الذي يجعله يفهم الفهم الصواب آيات القرآن وسنة النبي العدنان، فإذا بنور السنة ينطفئ من قلبه، وتحل محله ظلمة البدعة، ولا يزال به الشيطان حتى يغرقه في المهالك وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
وبين هذا وذاك بون، فإن ذاك عرف أخطاءه، وهذا لن يعرف ضلاله إلا إذا رجع إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم.
هذا وإن الله تبارك وتعالى لم يكلفنا عناء البحث عن هذا المنهج، ولم يترك بيانه لاجتهاد مستقيم أو فهمِ أعوج؛ بل بينه لنا في كتابه البيان الأبلج، فقال عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [ النساء: 115]
قال شيخ الإسلام في تفسير هذه الآية:
"وقد شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان. فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}. فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم...اه(1)ـ"
وقال: "وكذلك قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }. فإنهما متلازمان؛ فكل من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى. فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ؛ فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ.
وهذه " الآية " تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول"(2)
فيفهم من الآية وجوب اتباع ما جاء به الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم من الكتاب والسنة وعلى فهم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وبها استدل الشيخ الألباني رحمه الله على وجوب اتباع المنهج السلفي(3).
ويشهد لهذا الفهم ما روى عَبْدُ اللَّهِ بن عَمْرٍو رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ, حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ, وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً, وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً,كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً, قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي. (4)
قد يسأل سائل: لماذا فهم الصحابة وليس غيرهم؟
فالجواب: لأمرين اثنين:
الأمر الأول: لأن الله عز وجل زكاهم وأثنى عليهم في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودْ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الِإنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ِبِهم الكُفَّار، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا}[الفتح: 29] وقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]. وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100]
وبين فضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»(5)
وقال صلى الله عليه وسلم: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ »(6)
الأمر الثاني: لأنهم شاهدوا التنزيل, وعايشوا التشريع، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله: "ومعلوم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم؛ فهم المقدَّمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدَّمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يخَالَفُ..."(7)
ومعلوم لدى كل عاقل أن من عايش حدثا كان أعرف به ممن لم يعشه.
تنبيه مهم:
يجب الانتباه إلى أن معرفة سبيل المؤمنين لا تكفي وحدها للعصمة من البدع والمحدثات، بل يجب معها معرفة سبيل المجرمين، عملا بقول رب العالمين: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرمين}.
"قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية))؛وَهَذَا من كَمَال علم عمر رَضِي الله عَنهُ؛ فَإِنَّهُ إِذا لم يعرف الْجَاهِلِيَّة وَحكمهَا -وَهُوَ كل مَا خَالف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول فَإِنَّهُ من الْجَاهِلِيَّة- فَإِنَّهَا منسوبة إِلَى الْجَهْل، وكل مَا خَالف الرَّسُول فَهُوَ من الْجَهْل، فَمن لم يعرف سَبِيل الْمُجْرمين وَلم تستبن لَهُ، أوشك أَن يظنّ فِي بعض سبيلهم أَنَّهَا من سَبِيل الْمُؤمنِينَ ،كَمَا وَقع فِي هَذِه الْأمة من أُمُور كَثِيرَة فِي بَاب الِاعْتِقَاد وَالْعلم وَالْعَمَل هِيَ من سَبِيل الْمُجْرمين وَالْكفَّار وأعداء الرُّسُل أدخلها من لم يعرف أَنَّهَا من سبيلهم فِي سَبِيل الْمُؤمنِينَ، ودعا إِلَيْهَا، وكفّر من خالفها، واستحل مِنْهُ مَا حرمه الله وَرَسُوله، كَمَا وَقع لأكْثر أهل الْبدع من الْجَهْمِية والقدرية والخوارج وَالرَّوَافِض وأشباههم مِمَّن ابتدع بِدعَة ودعا إِلَيْهَا وكفّر من خالفها" (8).
هذا وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالسَّبِيليْنِ من غيرهم.
قال ابن القيم:
"فالعالمون بالله وكتابه ودينه، عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده، والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة، ولذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة؛ فإنهم نشأوا فى سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك، وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه؛ فإن الضدَّ يظهر حسنَه الضدُّ، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضده عالمين بالسبيل على التفصيل(9).
وعليه فإن معرفة السبيلين تجعل المرء على بصيرة بسبيل المؤمنين فيتبعه، وعلى علم بسبيل المجرمين فيجتنبه، وبذلك يستحق أن يذكر في زمرة العقلاء، على حد قول سفيان بن عيينة: "العاقل ليس الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه. (10)"
هذا ما تيسر جمعه، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطإ فمن نفسي والشيطان، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى: 4/2
(2) مجموع الفتاوى: 7/38
(3) سلسلة الهدى والنور – ما معنى السلفية ؟ وإلى من تنسب؟
(4) الترمذي (2641) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5343).
(5) البخاري برقم: 3673. ومسلم برقم: 2541.
(6) البخاري برقم: 3651. ومسلم برقم: 2533.
(7) إعلام الموقعين: 2/274.
(8) الفوائد لابن القيم: ص109.
(9)المصدر نفسه ص108-109. وانظر مفتاح دار السعادة: ص295.
(10 ) العقل وفضله لابن أبي الدنيا ص 59.


التعديل الأخير تم بواسطة عبد القادر شكيمة ; 24 Nov 2015 الساعة 08:52 AM
رد مع اقتباس