عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11 Nov 2019, 12:32 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي




وهذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضها يفيد حصول ذلك منه قبل أن يموت بخمس، وبعضها يفيد حصول ذلك عند نزول الموت به، وفي ذلك أوضح دليل على أنّ هذا الحكم محكم غير منسوخ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ولم يعش بعده، حتى يكون هناك مجال للنّسخ.

واتّخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله»، ويشمل قصدها واستقبالها في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» رواه مسلم (2251) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه، ويشمل السجود على القبر من باب أولى، إذ هو أخصّ من الصلاة إليه، وفي مصنف عبد الرزاق (1581) عن معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «رآني عمر بن الخطاب وأنا أصلي عند قبر، فجعل يقول: القبر! قال: فحسبته يقول: القمر! قال: فجعلت أرفع رأسي إلى السماء فأنظر، فقال: إنّما أقول: القبر! لا تصلِّ إليه، قال ثابت: فكان أنس بن مالك يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي فيتنحّى عن القبور»، وهذا الأثر علّقه البخاري بمعناه قبل حديث عائشة عن أم حبيبة وأم سلمة في قصة الكنيسة التي رأينها في الحبشة الذي تقدّم قريباً.

والبناء على القبور حرام سواء اتُّخذت مساجد أو لم تُتَّخذ، وكذا كل تعظيم للقبور يؤدي إلى الغلو في أصحابها، ويدلّ لذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه» رواه مسلم (2245).

ومثل البناء على القبور: دفن الموتى في البنيان، لأنّه بمعناه، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتّخذوها قبورا» رواه البخاري (432) ومسلم (1820)، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان ينفر من البيت الّذي تُقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم (1824)، وحديث أبي هريرة هذا أورده الحافظ في الفتح (3/530) وقال: «إنّ ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقاً» وروى أبو داود (2042) بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ، فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم».
والنّهي عن اتخاذ البيوت قبوراً يشمل ترك الصلاة فيها وترك قراءة القرآن وتشبيهها بالمقابر التي ليست محلاً للصّلاة وقراءة القرآن، كما دلَّ عليه حديثا ابن عمر وأبي هريرة المتقدمان، ويشمل دفن الموتى في البيوت كما أشار إلى ذلك ابن حجر، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/27): «وقد نهى عليه السلام أن يُبنى على القبور، ولو اندفن الناسُ في بيوتهم لصارت المقبرة والبيوت شيئاً واحداً»، وقال: «وأما دَفنُه في بيت عائشة صلوات الله عليه وسلامه فمختص به».

أقول: وأمّا دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم في حجرة عائشة رضي الله عنه فإنّما جاء تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فضل الله عز وجل على هذين الرّجلين العظيمين أن جعلهما رفيقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمَين له في الدنيا، وجارَيه في قبره، وبعد البعث والنشور يكونان معه في الجنّة، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ولا يجوز أن يُصلَّى في المساجد التي بُنيت على قبور، والواجب هدم المسجد الذي بُني على القبر إذا كان القبر هو السابق، وإن كان الميت دُفن في المسجد، فيجب نبشُه وإخراجه من المسجد، وأمّا مسجد نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فـفضله ثابت والصلاة فيه مضاعفة، وهي خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلاّ المسجد الحرام، كما ثبتت بذلك السُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في ذلك ما كان قبل دخول القبر أو بعد دخوله.
وليس لأحد أن يتعلّق بـوجود قبره صلى الله عليه وسلم في مسجده لتجويز بناء المساجد على القبور أو دفن الموتى في المساجد، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي بنى مسجده صلى الله عليه وسلم، وبنى بجواره بيوت أزواجه خارجاً منه، وبعد موته صلى الله عليه وسلم دُفن في بيت عائشة، وقد بقيت البيوت على ما هي عليه خارج المسجد في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعهد معاوية رضي الله عنه، وفي عهد خلفاء آخرين من خلفاء بني أمية، وفي أثناء عهد بني أمية وُسع المسجد وأُدخل القبر فيه، وقد مرَّ ذكر جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من بناء المساجد على القبور، وهي أحاديث محكمة، منها ما قاله صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس، ومنها ما قاله في لحظاته الأخيرة صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ترك هذه الأحاديث المحكمة والتعويل على عمل حصل في أثناء عهد بني أمية.
لا يجوز أيضاً ترك الأخذ بالأحاديث المحكمة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد والاستدلال على الجواز بقول الله عز وجل في أصحاب الكهف: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]، لأنّ الذي في الآية حكاية عزم أهل الغلبة فيهم على اتّخاذ المسجد عليهم، وهذه الحكاية لا تدلّ على حمد الذي عزموا عليه، وهو من جملة فعل مَن كان قبلنا إن كانوا نفَّذوا ما عزموا عليه، وقد مرَّ في الأحاديث بيان أنّ اتّخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين من فعل من قبلنا على سبيل الذمّ لهم، ونُهينا أن نفعل مثل أفعالهم، ولأنّ في الاستدلال بالآية على الجواز أخذاً بالمتشابه وتركاً للمحكم، ثم إن الاستدلال بالآية نظير الاستدلال بقصة بلقيس في سورة النمل على تولية المرأة وترك الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» رواه البخاري (4425)، والاستدلال على عمل التماثيل بقوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ [سبأ: 13] الآية، وترك الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «أن لا تدع تمثالاً إلاَّ طمسته» الحديث وقد تقدّم، وانظر تفصيل رد الاستدلال بهذه الآية على الجواز في تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للشيخ الألباني رحمه الله (ص: 63).

وقد جلَّت المصيبة وعظُمت الفتنة فيما ابتلي به كثير من المسلمين في أقطارهم المختلفة من تعظيم القبور والبناء عليها واتخاذها مساجد وإسراجها ووضع الستور عليها، وذلك من أعظم الوسائل المفضية إلى إشراك أهلها مع الله ودعائهم والاستغاثة بهم وطلب الشفاعة منهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات.

وقد بيَّن العلماء أنّ تعظيم القبور والغلوّ في أصحابها من أعظم أسباب الوقوع في الشرك وعبادة الأصنام، قال الفخر الرازي (606 هـ) في تفسيره (17/ 60) عند قوله تعالى في سورة يونس: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾ قال: «ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنّهم إذا عظَّموا قبورهم فإنّهم يكونون شفعاء لهم عند الله»، قال ذلك مشبها ما يحصل من كثير من الناس من تعظيم القبور وطلب الشفاعة من أصحابها بما حصل من عباد الأصنام في تعظيمها وعبادتها لتشفع لهم عند الله.

وقال في تفسير سورة سبأ (25/254): «واعلم أنّ المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة»، قال في آخرها: «قول مَن قال: إنّا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا، فقال تعالى في إبطال قولهم: ﴿ولاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، فلا فائدة لعبادتكم غير الله، فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمَن يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوِّتون على أنفسكم الشفاعة».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) في مجموع الفتاوى (27/ 79): «وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يُعبد»، واتّفق العلماء على أنّ مَن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنه لا يتمسّح به ولا يقبِّله، بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلاّ الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال: «والله! إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك»، ولهذا لا يسنّ باتّفاق الأئمّة أن يقبّل الرجل أو يستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين».

والحديث الذي ذكره شيخ الإسلام في أول كلامه أخرجه أحمد (7358) وغيره بإسناد صحيح، وانظر تحذير الساجد للشيخ الألباني (ص: 25).

وقال ابن القيم رحمه الله (751 هـ) في كتابه إعلام الموقعين (3/151) في الوجوه التسعة والتسعين التي أوردها في سد الذرائع قال: «الوجه الثالث عشر: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعَن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتّخاذها عيداً، وعن شد الرحال إليها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتّخاذها أوثاناً والإشراك بها، وحرم ذلك على مَن قصده ومَن لم يقصده، بل قصد خلافه سداً للذريعة»، وقال ابن كثير رحمه الله (774هـ) في البداية والنهاية (14/ 171) في حوادث سنة (208 هـ) عند ذكره ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد الهاشمية، قال: « وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام».

...يتبع...إن شاء الله...

رد مع اقتباس