عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 10 Aug 2010, 09:26 PM
أبو معاوية كمال الجزائري أبو معاوية كمال الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الجزائر(قادرية- ولاية البويرة)
المشاركات: 513
افتراضي

بعد الفراغ من عرض المقالات التي كانت بعد ردّ "رجب البيومي" على مقال "لا تسبّوا أصحابي" لمحمود شاكر، أنقل هنا مقال الأخير "حكم بلا بيّنة"، فإنه يحوي تأصيلات و يكشف عن منهج البحث و التحقيق و التدقيق.. ثم إني ألفِتُ النظر إلى كون تلك المقالات السابقة كانت خِلوا من تعليقات و ملاحظات أهل العلم، فقد آثرتُ ذلك، أن أنقلَها فارغة من أي نقد.


"حكم بلا بينة"- أول مقال لمحمود شاكر يردُّ به على سيّد في مجلة المسلمون

"يوشك تاريخ الإسلام أن يصبحَ لهواً على الألسنة، و لغواً في الصحف، و مرتعاً للظنّ المتسرّع دون اليقين المتثبت، و هدفاً لكل متقحّم على الحق بمثل جراءة الباطل، و مخاضة يخوض فيها كلُّ من ملَكَ لساناً ينطق، أو عقلا يفكّر، أو قلما يخطّ. و إنما ابتلى زماننا بهذا لأسبابٍ كثيرة، أولها: أنّ العصر الذي نعيشُ فيه يُعجل الناس عن تحقيق معنى الدين نفسه في حقيقة قلوبهم. و آخرها: أنّ المسملين في زماننا بلغوا من العجز و القلة و الهوان على أنفسهم مبلغاً مهّدَ لشياطين الإنس و الجنّ مسالكَ كثيرة إلى مقر الغرور في بعض الأفئدة ، فسوّلَ لأصحابِها فيما يسوّل أنْ فهموا الإسلام "فهماً جديداً" ، فكان لهذه الكلمة سحرها حين مست مكانَ الغرور و الكبرياء من نفوسهم ، و احتملهم هذا الغرور على أن يُسيئوا الظنَّ بما يفهمون من ماضيهم، جله أوكله، و خيّلَ إليهم سوءُ الظن أنّ ذلك هو طريق الحق لإحياء دين الله في نفوسهم و إقامةِ شريعته في أرضه. ثم خرج بهم مخرجاً أوقعَ في أوهامِهم أنهم قادرون على أن يُجدّدوا أمرَ هذا الدين، بمجرّد النظرة الخاطفة المعتسفة في كتابِ الله و سنّةِ رسولِه صلى الله عليه و سلم ، و في تاريخ أسلافِهم من المسلمين.
و لا أظنّني أُخطئ شيئاً في التقدير إذا زعمتُ أنّ هذه النابتة، لم يُبتلَ الإسلامُ بمثلِها قط، على كثرة ما انتابه من النوابت المتتابعة على مدى عصوره كلها، في حال بأسه و سطوته، و في حال ضعفه و فترته. و هي عندي أخطرُ النوابت جميعاً و أخوفها على دين الله، لأنها نجمت في عصر قد حطّمَ جميع القيم الانسانية العتيقة، و دمّر تراثَ الأخلاق التي فُطر عليها ولد آدم في الآباد المتطاولة.
و لا أسيء الظنّ فأدّعي أنهم يأتون عن عمد ، بل أقول إنّ وباء هذا العصر قد أصابهم ، منذ نقله الاستعمارُ إلى الأرض المسلمة ، فنُشئوا فيه لا يكادون يُحسون بالذي أصابهم من آفاته، فاتّسمَ تفكيرُهم من أجل ذلك بسِمَة التحطيم و التدمير، و سِمة الغلوّ و الجراءة، و سمة الإصرار على تحقيق معاني الغرور الانساني في أعمال الإنسان، و أولها الفكر.
و قد تفشّت في أهلِ الإسلام منذ زمن قريب فاشية شديدة الخطر على تاريخ الإسلام كله، بل على دينِ الله نفسه. نظرتْ متعجّلةً في دينِ ربها، و خطفَتْ خطفةً في تاريخ أسلافها، ثم انتزعت من ذلك كله حكماً يدمغ المسلمين جميعا منذ القرون الأولى من الهجرة، باطراح الدين و اتباع الشهوات، فزعمتْ مثلا: أنّ الإسلام لم يُطبّق و لم يُعمل به إلا مدة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و مدة أبي بكر خليفة رسول الله، و مدة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ثم مرجَ أمرُ الإسلام و اضطرب !
و الخطأ في مثلِ هذا الحكم الدامغ يكبر عن أنْ يُسمّى خطأ، إنه الحالقة: حالقة الدين لا حالقة الشعر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، تستأصِلُ دينَ الصحابة و التابعين، و تستأصل أمانَتهم في تبليغِه، و تستأصل ما بذلوه في نشرِه في مشارق الأرض و مغاربها، و تستأصل تاريخَهم ، و تستأصل تاريخَ الحياة الإسلامية كلها ثلاثة عشر قرنا ! فيا لها من بلوى تستهلك دينَ امرئٍ إذا نطَقَ بها، و تخسِف بتقوى سامع إذا لم يُنكرها. و رَدُّ مثل هذه المقالة ، يوجِب على منكرها أحدَ طريقَين: إما أن يسردَ على القائل بها تاريخَ الإسلام كله بجميع تفاصيله، و يقف بع على كلّ موضعٍ منها، و هذا شيءٌ لا يتيسّر في كتابٍ واحد، فضلا عن مقالة ، فضلا عن حديث. و إما أنْ يَقِفَ على فسادها في صريح العقل ، و يُبيّن له ما تقضي إليه من بَهْتِ أمةٍ كاملة، بل أمم بأسرها ، بشيءٍ لا يستطيع عاقل أن يحتمِلَ وزرَه في فكره و تقواه و دينه. و هذا هو أيسرُ الطريقَين ، و أقربهما إلى تصحيح المقاييس، و إلى إقامةِ التفكير على أصلٍ وضاح وثيق.

و كلمة "الإسلام" كلمةٌ شاملة لدينِ الله، و إذا دخلت في حكمٍ قاطع كهذا الحكم " إنّ الإسلام لم يُطبَّق إلا مدة رسول الله و أبي بكر و عمر" صارَ حكماً شاملا بطبيعته ، فإذا أُلْقِى إلى سامعٍ ، لم يجدْ عندئذ مناصاً في العقل و لا في اللغة و لا في البيان، من تعميم الحكم في كل ما يتناوله لفظُ "الإسلام".
فإذا استمعه سامعٌ كأهلِ زماننا الذين وصفنا قبل، كان هذا الحكم ظلاً كثيفاً قاتما كئيبا يُلقى على العصور الأولى كلها من قتامه و كآبتِه ، يدفع إلى الاستخفاف و التحقير و الغلوّ في التهزّؤ بأهل هذه العصور، و الشك في أمورهم، و يعميهِ عن معرفة الحقائق، و يصرفه إلى البحث عن المثالب يتسرّع إليها و يتقمّمها من كل كتابٍ ومن كل خبر.و الناسُ أسرعُ شيءٍ إلى سوءِ الظنّ، فإذا كان سوء الظن و الثلب و التحقير مما يُعينهم على نسبة القدرة و الصلاح و العلم و الفقه إلى أنفسِهم فهم عندئذ أسرعُ إليه من السيل إلى الحَدور. و إذا كانت نسبة الصلاح و العلم إلى أنفسهم مدعاةً إلى صرف أنظار الناس إليهم بالتسليم و التبجيل و الإعجاب، فسوءُ الظن و الثلب و التحقير، أسرعُ في عقولهم و ألسنتِهم من النار المتضرمة في الهشيم اليابس. و ماذا بعد هذه البلوى، إلا أنْ يصبح تاريخ الأمة المسلمة منذ اليوم السابع و العشرين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة (منذ قتل عمر) إلى يومِ الناس هذا في سنة 1371 وقوداً لكلمةٍ يزل بها لسانٌ، و يتبجّحُ بها صوت، و تستخفّها أذنٌ؟ أيّ إنسانٍ يرضى لنفسِه هذه الظنة الجائحة ، فضلا عن إنسان عاقل، فضلا عن مسلم، فضلا عن مسلم يتقي الله، يرجو رحمته، و يخاف عذابَه؟
قُتِل عمر و خلّفَ أئمّةَ الصحابة، فعاشوا زمنَ عثمان، و زمن علي، و زمن معاوية رضي الله عنهم، و بقيت منهم بقيةفي عصر الأوائل من بني أميّة، ثم خلفهم الذين اتّبعوهم بإحسانٍ من علماءِ الأمة و فقهائِها و أهلِ دينها، و هم متوافرون يومئذ إلى أوائل عصر بني العباس، و كانوا هم علماء الأمة، و ورثة النبوّة، القائمون ببثِّ دين الله في الأرض، الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر، المبلّغون عن نبيّ الله و رسولِه، و عن أصحابِه هذا الدين إلى الناس. و بهم بلّغ المسلمون هذا الأمر كله، و بما بلّغونا من أمرِ الدين قامت حجّة الله علينا،و إلى ما بلّغوا كان مرجع أئمّة المسلمين و فقهائهم و علمائهم طول هذه القرون. و لولاهم، و لولا ما بلّغوا لدرستْ سنّة رسول الله، و لذهبَ الفقه، و لَفَقَدَ الناسُ الحجّةَ و البرهانَ في دينهم، و لما وجدوا وسيلةً لتحكيم الله و تحكيم رسولِه في شيءٍ مما اختُلِف فيه من أمر الدين، أفيمكن في العقل أن يُوصَف العصر الذي كان فيه هؤلاء الأمناء على دينِ ربِّهم ، بأنه عصرٌ لم يُطبَّق فيه الإسلام ؟! و أين غابوا جميعا إذا كان الإسلام لم يُطبّق في زمانهم ؟ و لو شهدوا، و صحّت الكلمة على زمانهم، فكيف يُؤتمنون على ما بلغوا من أمر الدين؟
بل إلى أيّ شيءٍ يحتكِم قائلُ هذه الكلمة في الحكم على عصرهم؟ أليس يحتكم و يرجع في الحكم عليهم إلى ما بَلغَه هو من دين الله الذي بلّغوه هُمْ إليه؟ و أنّى له أنْ يعرِفَ الإسلامَ إلا بما عرّفوه هم له و لمن سبقه من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم؟ بل كيف يُعقل أنْ يبلّغوا هذا الشيء الذي يستند إليه هذا القائل، و يكونونَ هم أوّلَ الناقضين و الهادمين بإغفالِهم إقامته. بل بعملِهم على إقامة خلافه؟ أفي العقل شيءٌ بعد ذلك هو أفسَدُ معنىً و مدخلا و مخرجا من هذه الكلمة الجائرة، مِنْ هذا الحكم المستأصِل لدينِ هؤلاء الناس و علمِهِم و أمانتِهم؟ كبرت كلمة و ساء حكماً.
و أحبُّ أن أزيدَ الأسئلة: ما هو هذا الإسلام الذي لم يُطبَّق: أكفروا بأنْ لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول عبده و رسوله؟ أتركوا صلاتَهم وأضاعوها و سهوا عنها؟ أمنعوا زكاتَهم و احتجنوها(خزنوها) فلم يؤدّوا حقَّ الله عليهم؟ أتركوا شهرَ صيامهم فأفطروه؟ أأبوْا أن يحجّوا إلى بيت ربهم قانتين مسبحين مكبّرين؟ أعتزلوا الجهادَ بأموالهم وأنفسهم رغبةً عنه و حرصا على الحياة؟! أأغفلوا أدبَ الله لهم و أدبَ رسوله؟ أنقضوا عهدَ الله فخانوا الأمانة و بغوْا في الأرض؟ أعطّلوا أحكامَ الله و فرضوا على الناس أحكاماً من عند أنفسِهم؟ أشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله؟ أأبطلوا الحدودَ و نصروا الخارجين عليها و المعتدين؟ أأعرضوا بقلوبهم و وجوهِهم عن كل ما تضمّنَه كتابُ الله، و ما احتوته سنّةُ رسوله، و عادوا في جاهلية لا يُعرف فيها لله دين، و لا يُطاع له فيها أمرٌ، و لا يُنتهى فيها عن منكر، و لا يؤتى فيها معروف؟ أرتكسوا هم و الأمة كلها قرناً من بعد قرن في تعطيل الإسلام في أحكامهم، و في أنفسهم، و في أبنائهم، و في الذين دخلوا في هذا الدين حتى شمل ما بين الهند شرقاً إلى المغرب الأقصى غرباً. و من حدود الروم شمالا إلى أقصى الأرض جنوبا؟ أيّ عاقل يستطيع أن يقول: نعم، في جوابِ سؤالٍ واحد من هذه الأسئلة، فضلا عنها كلها؟
و لو غلغل المرءُ قليلا فسأَلَ نفسَه: أَمِنَ الممكن لأمّةٍ تنقُض دينَها هذا النقضَ، الذي استوجب ذلك الحكم ، أن تفتحَ الأرَضين كلها، و تُحدِث فيها أكبرَ تغيير حدث في تاريخ الجنس البشري كله: تتغيّر بهم ألسنةُ الناس إلى العربية ، و دينهم إلى الإسلام، و تنابُذُهم إلى الألفة،و تداعيهم باسم العصبية و الجنسية، إلى شيء واحد هو جماعة المسلمين، ويقومُ هذا الأمرُ في الأرض ثلاثة عشر قرنا، مع شدة ما انتاب المسلمين على مرِّ القرون من النوائب، إلى أن كانت النائبة الكبرى في هذا العصر، و هي نائبة الاستعمار، و يظلُّ مع ذلك هذا الرباطُ الوثيق مشدوداً، لا ينحلُّ من ناحية ، إلا تداركته آلافُ الأسباب من هذا التراث من نواح أخرى، أكانَ ممكنا لهؤلاء الذين خانوا أمانةَ الله أن يبلغوها هذا المبلغ؟ اللهم اشهد، فإنها كلمةٌ لو صحّت لأزلتْ العقول من مستقرِّها؟ و صدقَ اللهُ رسولَه و المؤمنين :"وعدَ اللهُ الذين أمنُوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرضِ كما استخلَفَ الذين من قبلِهم و لَيُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم و لَيُبَدِّلَنَّهم من بعدِ خوفِهم أمناً يعبدونني لا يُشرِكون بي شيئاً. و من كفرَ بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون". و ما من حرفٍ من هذه البشارة إلا أتمّه اللهُ على محمّد و أصحابِه و تابعيهم، إذْ كانوا خيرَ أمة أُخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و يُطيعون اللهَ و رسولَه في سرِّهم و علانيتِهم.
و من الحق على من وسوسَ في قلبه هذا الحكم الشامل: أنّ الإسلام لم يُطبَّق إلا مدة رسول الله، و مدة أبي بكر و عمر، أنْ يسأَلَ نفسَه: بم يصحُّ مثل هذا الحكم؟
إنّ بديهة العقل تُجيبه بأنه لا يسوغ له أن يحكمَ على عصور كاملة بحكمٍ شامل، إلا بدلائل بيّنة المعاني صحيحة الأصول، و شرطُ هذه الدلائل أن تكون مستقصيةً لأهل الإسلام في كل أرضٍ، و أن تكون شاملةً أيضا لكل ما يكون به إسلام الناسِ إسلاماً، و أنْ يكون ما يدّعي المدّعى أنه قد أُبْطِل، أمراً من أمور الإسلام التي لم يختلف عليها المجتهدون من العلماء و الفقهاء، و أن يكون هذا الإبطالُ جارياً مجرى الشريعة، و مأمورة به كل جماعة يشملها الإسلام. فإذا فقدَ الحكمُ هذا الشرطَ، فإنما هو تحكّمٌ محضٌ و بهتانٌ خالص. و لستُ أظنّ في العالم كله إنساناً يوصف بالمعرفة يستطيع أن يؤيِّدَ هذا الحكم، بمثل هذه الدلائل، على مثل هذا الشرط، مهما أوتي من العلم،و من التتبّع، و من سوء النية، و من براعة التخلّص ، و من تمام القدرة على إظهار الباطل في ثيابٍ مزوّرة من الحق.
و إلا فإنّ هذا الحكم الشامل، مظلمة جائرة مُبيرة لأهل العصور الأولى من الصحابة و التابعين و علماء الأمة، و قادحٌ بليغ في دينِهم و أمانتِهم، و جائحةٌ طاغية تُزيل كلَّ ثقة بهم و بتاريخهم و أعمالِهم، و ناقضٌ مُدمِّر ينقُضُ كلَّ ما يشهد به التاريخ الذي كنا نحنُ آخرَ خلف له في هذا العصر.
كلا، بل أتجاوز و لا أطالِبُ من يقضي بهذا القضاء، أن يأتي بكل هذا الشمول بل أقتصر فأدعوه إلى أن يأتي بقضية مفردة عن الإسلام، تجتمع لها هذه الشروط، مصحّحة صادقة خالية من التوهّم و الغلو. و أنا على يقين من أنّ أحداً لا يُطيق أن يفعل،و أنّ الأمر أكبر من أن يُحيط به بيانُ مبين و علمُ عالِم. و إنما يؤتى الغارز فكره في هذه الضلالة المتحكمة باتّخاذه الحادثة الواحدة المجردة من الاستقصاء و الشمول، و من الاختلاف في أمرها،و من شمول العمل بها و إنفاذها في جماعات المسلمين- أساساً لاستقصاء مكذوب و شمول متوهّم.
ثم أتجاوز مرة أخرى و ألتمس لهذا الحكم الشامل مخرجاً آخر، أزعم فيه أنّ العربية و البيان و العقل تُبيح مجتمعة أن يكون المراد بالإسلام في هذا الحكم جزءاً من الإسلام،و أن يكون المراد بالذين لم يُطبقوه فئة واحدة من المسلمين، فكيف يمكن أن يصحّ؟
إنّ المدعي لمثله مطالَب عندئذ أن يستقصي هذا الجزء المعطّل في تاريخ العصور التي يشملها حكمه، يوما بعد يوم،و حادثة بعد حادثة. و أن يدلّ دلالة لا يأتيها الشك أن ذلك هو الذي جرى به العمل في كل جماعة من جماعات المسلمين، و أن يأتي بالبرهان على أن هذه الفئة أصرت على أن تجعلَ هذا الجزء ديدنَها في كل زمان ومكان، و أنها استطاعت أن تجعلَ ما خالفَ حكمَ الله إلزاماً عاما للناس كلهم بتشريعٍ من عند أنفسهم يلزم الناسَ جميعاً العمل به و الطاعة له. و هذه هي الشروط التي يقضي محضُ العقل أنها هي وحدها التي تُبيح لامرئ أنْ ينطِقَ بحكمٍ شامل كهذا الحكم. فإذا لم تتمّ له هذه الشروط، فما هو إلا التعسف الغليظ الذي لا يبصر وجهَ الحق إلا في ظلمات من الباطل، إن صحّ و أمكن أن يكون التعسف قادراً عندئذ على أن يُبصر.
ثم أتجاوز مرة ثالثة، فأزعمُ أنه من الممكن أن نلتمسَ شيئا من الإسلام لا يدخله الخلاف ، قد أطبق الخلفاءُ جميعا منذ قتل عمر رضي الله عنه على تعطيله، فما الشروط اللازمة لمثل هذا الممكن؟
ينبغي أن يُثبت المرءُ أولا أن الخليفة قادر على أنْ يأمر علماء الإسلام و فقهاءَهم و مفتيهم و أمراءَهم و عامة الناس منهم بهذا الذي يريد تعطيله، و أنهم إن فعلوا أطاعوه جميعا و عملوا بما أمر، و أنّ هذا الشيء من الإسلام قد عُطِل تمام التعطيل في الحياة الإسلامية كلها في زمنه. و من البيّن أنّ الخليفة رجلٌ من المسلمين، لا يملك أن يشرع للناس شرعاً يعمل به الفقهاء و القضاة و المفتون، و يخضع له عامةُ الناس علانية و يعملون به في أنفسهم سرا. و إذا بطل هذا الشرط، بطل الحكم كله، و لم يبق إلا أن الخليفة ربما قدرَ على أن يُعطل حكماً من أحكام الله، فيما يمكن أن تناله يدُه،و هو في بيته أو قصره أو بلدته، دون سائر بلاد المسلمين. و أن هذا الحكم لا يلزم أحداً من القضاة و لا الأمراء أن يفعلوا فعلَه، لأنه لا يملك أن يُشرّع لهم ما لم يأذن به الله. و أنا أقطع بأن تاريخ الإسلام كله ليس فيه حادثة واحدة: استطاع خليفة أن يأمر قضاة المسلمين و علماءَهم و فقهاءَهم بأمرٍ يُخالف كتابَ الله وسنةَ نبيه، فأطاعته الأمةُ كلها أو بعضُها، و عملتْ بما أراد،و قضتْ على الناس بقضائه دون قضاء الله.
و ينبغي أن يُثبِت المرءُ ثانيا أن الخليفة –أو غير الخليفة من أمراء المسلمين في بلدان الأرض المسلمة- قد استطاع أن يجعلَ هذا التعطيل ، بهذه الشروط، عملاً متوارثاً في جيل بعد جيل،و أنّ الأمة قد اتّفقت على قبول تعطيله أبدا و أنّ هذا هو الذي جرى به العمل بلا ريبة و لا ادعاء و لا توهّم ولا اعتساف، و أنا أقطع أيضا بأنّ هذا شيء لم يكن قط إلا بعد أن ضربَ الاستعمار على هذه الأمة الإسلامية حضارتَه و ثقافتَه و لونَ تفكيرَه.
فهذه الكلمة الباغية الجائرة منقوضة في شمولها و في تخصيصها، و لا يستطيع منصفٌ بعض الإنصاف أن يجدَ لها في العقل مخرجاً، و لا في التاريخ شاهداً، و لا في الفرض المطلق وسيلةً إلى تحقيق طرف منها. و هي لا تصحّ في أحد محمليها إلا كانت حكماً على عامة الصحابة و التابعين و الفقهاء و خاصتهم بالكفر البواح. فلينظر امرؤٌ أين يُنزل عقلَه؟ و فيم يورّط دينَه و تقواه؟ و إلى أي قرار تهوي به كلمةٌ تُعجب هواه و يستخفّها لسانُه، و يتغذى بها غرورُه بنفسه؟
و لم أجعل همي في هذه الكلمات أن أسردَ الحججَ التي يحتجُّ بها القائلون بهذا الحكم و لا أن أروي ما يُعدونه مؤيِّداً لهم من روايات التاريخ و الكتب. فإني إنْ فعلتُ كان لزاماً عليّ أن أقدم نفس هذه المقدمة في شروط الأحكام،و مقدمة أخرى في تمييز ما يُعدّ تاريخاً ، ومقدمة ثالثة في انتزاعِ الحكم العام من الحادثة أو الحوادث، و هل هو صحيح في نفسِه أو غير صحيح. ثم آخذها واحدة واحدة فأبين وجهَ تأويلها أو فهمها أوردّها أو تجريحها إلى آخر ما ينبغي لكل من يتصدّى للأحكام على أفراد في التاريخ، فما ظنك بأممٍ بأسرها في تاريخٍ كامل كتاريخ العصور الإسلامية أولها وآخرها. و كلّ ما رميتُ إليه أن أبيّنَ فسادَ مثل هذا الحكم الشامل، و أسبابَ فساده، و أن أكشفَ عن موضع المخافة و ثقل الوزر، و جناية التسرّع في تعميم الأحكام بلا بيّنة من العقل أو الحجة أو التاريخ. و أرجو أن يُتاح لي أن أتناولَه مرة أخرى بالبيان و التفصيل حتى يتجلى فيه وجهُ الحق."

انتهى النقل من موضوع الأخت جزاها الله خيرا مع بعض التصرف اليسير .


التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاوية كمال الجزائري ; 10 Aug 2010 الساعة 09:37 PM
رد مع اقتباس