صيغ الأمر بالتوحيد في كتاب الله - الجزء الأول-
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اتبع هداه أما بعد :
فإن مما استأثر الله به و جعله محض حقه تعالى هو توحيده و طاعته ، و الإخلاص في الأقوال و الأعمال و الإعتقاد له وحده ، و قد أجملها تعالى في كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) و شهد بذلك سبحانه و أشهد ملائكته و أهل العلم على أعظم شهادة لأعظم مشهود له ، قال تعالى :( شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط ) {آل عمران 18}. فالتوحيد هو أصل هذا الدّين ، وأساسه المتين ، فهو آكد الحقوق إذ هو حق الله رب العالمين ، ففي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :( ...حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ... الحديث ) (1) . و هو بذلك أوجب الواجبات على المكلفين ، إذ كل حق يقابله واجب ، فحق الله واجب على المكلفين . و خلق الله الخلق لأجل تحقيقه ، قال الله تعالى :(و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) {الذاريات 56}. و أرسل الرّسل و أنزل معهم الكتب من أجل بيانه و الدعوة إليه ، قال الله جل و علا :(و لقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت){النّحل 36}. و أنعم على الخلق بالنعم الظاهرة و الباطنة ليشكروه بإفراده بالعبادة ، قال سبحانه :(فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف ) {قريش 4}. و قد جاء القرآن الكريم شاهدا على التوحيد ، داعيا إليه ، مبيّنا لأدق تفاصيله ، قال العلامة ابن القيم عليه رحمة الله :{ بل نقول قولا كليا : إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد ، شاهدة به داعية إليه ، فإن القرآن : إما خبر عن الله و أسمائه و صفاته و أفعاله ، فهو التوحيد العلمي الخبري ، و إما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له و خلع كل ما يعبد من دونه ، فهو التوحيد الإراديّ الطلبيّ ، و إما أمر و نهي ، و إلزام بطاعته في نهيه و أمره ، فهي حقوق التوحيد و مكملاته ، و إما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده و طاعته ، و ما فعل بهم في الدنيا ، و ما يكرمهم به في الآخرة ، فهو جزاء توحيده ، و إما خبر عن أهل الشرك ، و ما فعل بهم في الدنيا من النكال ، و ما يحل بهم في العقبى من العذاب ، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد} (2). و قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته المفيدة :{ستة أصول عظيمة مفيدة } : { الأصل الأول : إخلاص الدين لله وحده لا شريك له ، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله ، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة ...} . إذن ؛ فقد بين القرآن التوحيد أعظم بيان و أوضحه ، وبين للمكلفين متعلقاته و مسائله ، و ما يكمل به و يزداد ، و بين ما يضعفه و ينقصه ، و ما يخرمه و ينقضه ، و أمرهم به ، فجاءت صيغ الأمر بالتوحيد متعددة في كتاب الله رب العالمين ، نأخذ منها على سبيل المثال : الأمر الصريح بالتوحيد : فقد جاء الأمر الصريح بإفراد الله بالعبادة في آيات كثيرة من كتاب الله جل و علا ، منها قوله تعالى :(يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون ){البقرة 21}. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله :{ هذا أمر عام لكل الناس ، بأمر عام ، و هو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، و اجتناب نواهيه ، و تصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له فقال تعالى :(و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )}(3). فالحاصل أن الله تبارك و تعالى أمر في هذه الآية جميع الناس –جنّهم و إنسهم- بما خلقهم له ، ألا و هو إفراده بالعبادة وحده ، لأنه المنعم وحده سبحانه ، و هذا حقه الخالص . و منها قوله تعالى :( و اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا .. الآية ){النساء 36}. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله :{ يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، و هو الدخول تحت رقّ عبوديته و الانقياد لأوامره و نواهيه محبة و ذلا و إخلاصا له ، في جميع العبادات الظاهرة و الباطنة }(4) و امتثال أوامر الله و اجتناب نواهيه هي حقوق التوحيد و مكملاته. و الأمر في كتاب الله يقتضي الوجوب ما لم تصرفه قرينة إلى الاستحباب ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله :{ فصل: و يستفاد كون الأمر المطلق للوجوب : من ذمه لمن خالفه ، و تسميته إياه عاصيا ، و ترتيبه عليه العقاب العاجل أو الآجل }(5). و قد جاء في كتاب الله الأمر بالتوحيد كما تقدم ، وجاء ذم من خالفه و هم المشركون ، و سمّاهم الله عزّ وجلّ كفّارا ، و رتّب على مخالفتهم الأمر بالتّوحيد العقاب العاجل و الآجل . أما ذمّ المشركين و أفعالهم ، فجاء في قوله تعالى :(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضّر عنكم و لا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون عند ربهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون رحمته و يخافون عذابه إن عذاب ربّك كان محذورا (57) ) {الإسراء}. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله في معرض تفسيره لهاتين الآيتين : { .. ثم أخبر أيضا أن الذين يعبدونهم من دون الله في شغل شاغل عنهم ، باهتمامهم بالافتقار إلى الله و ابتغاء الوسيلة إليه }(6). فقد ذم الله تبارك و تعالى المشركين و عملهم ، حيث عبدوا المخلوقين من ملائكة و أنبياء و صالحين ، و هؤلاء في شغل شاغل عنهم بالافتقار إلى الله و ابتغاء الوسائل المقربة إليه سبحانه ، و على رأسها التوحيد الذي ضل عنه هؤلاء المشركون ، وهذا من أسفه السّفه نسأل الله العفو و العافية . أما تسمية الله لمن خالف الأمر بالتوحيد ( كافرين )، فجاء في قوله تعالى :(و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ){المؤمنون 117}. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله :{ أي و من دعا مع الله آلهة أخرى غيره بلا بيّنة من أمره ، ولا برهان يدل على ما ذهب إليه ، وهذا قيد ملازم ، فكل من دعا غير الله فليس له برهان على ذلك ، بل دلّت البراهين على بطلان ما ذهب إليه ، فأعرض عنها ظلما و عنادا ، فهذا سيقدم على ربه ، فيجازيه بأعماله ، و لا ينيله من الفلاح شيئا ، لأنه كافر}(7)، فسماه الله تبارك و تعالى (كافرا ) لمخالفته الأمر بالتوحيد ، و دعائه للآلهة الباطلة و عبادته لها . و أما ترتيب الله العقوبة على مخالفة الأمر بالتوحيد ، فجاء في قوله تعالى : (إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظّالمين من أنصار ){المائدة 72}. قال العلامة ابن سعدي رحمه الله : { إنه من يشرك بالله أحدا من المخلوقين ، لا عيسى ولا غيره ، فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار ، و ذلك لأنه سوّى الخلق بالخالق ، و صرّف ما خلقه الله له - وهو العبادة الخالصة – لغير من هي له ، فاستحق أن يخلد في النار }(8)، فهذه عقوبة آجلة لمن خالف الأمر بالتوحيد . أما ما جاء في العقوبة العاجلة ، فمن ذلك ما جاء في قول الله جلّ و علا :( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ){النساء 48}. قال العلامة عبد العزيز الراجحي حفظه الله : { و ذكر المؤلف رحمه الله دليلين : دليلا لحكم المشرك في الدنيا و دليلا لحكم المشرك في الآخرة : الدليل الأول في حكم المشرك في الدنيا : قال الله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ){النساء 48}. فالشرك غير مغفور ، و المراد به الشرك الأكبر ، لأن الله خص و علق ، فخص الشرك بأنه لا يغفر ، و علق ما دونه بالمشيئة . و الدليل الثاني حكمه في الآخرة : أن الجنة على صاحبه حرام ، وهو مخلد في النار قال الله تعالى :(إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار){المائدة 72}.} (9). ثم ذكر حفظه الله جملة من العقوبات و الأحكام الدنيوية للمشرك مثل : - تطليق زوجته منه - ألّا يغسّل و لا يصلّى عليه إذا مات - ألّا يدفن في مقابر المسلمين - ألا يدخل مكة ألّا يرث ولا يورث من المسلمين . آخر الجزء الأول ، والله أعلم. ----------------------------------------- (1)أخرحه البخاري 2856 و مسلم 30 (2)مدارج السالكين 3/ 417-418 (3)تيسير الكريم الرحمن 30 (4)المصدر السابق 159 (5)بدائع الفوائد 4/ 1307 (6)تيسير الكريم الرحمن 435 (7)المصدر السابق 532 (8)المصدر السابق 218 (9)تبصير الأنام بشرح نواقض الإسلام 15 |
جزاك الله أخي أبا عبد الله على هذه الفوائد والدرر
وحبذا لو قمت بتميز العناصر الأساسية في الموضوع حتى يسهل مطالعته وننتظر الحلقة القادمة على أحرَّ من الجمر |
تشكر أبا الحسين على المرور الطّيب و الملاحظة الأطيب ، لعلّي أستدرك ذلك في الحلقات القادمة ، أسأل الله الإخلاص و التّوفيق و السّداد .
الحلقة القادمة ستكون حول الأمر بالتوحيد بالنهي عن ضدّه ( الشرك ). و من الله وحده أستمد العون . |
الساعة الآن 08:43 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013