بعض المسائل التي خالف فيها ابن هشام الأنصاري المدرسة الكوفية- المسألة الأولى-
 

إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أما بعد :
فهذا جمعٌ لبعض المسائل التي خالف فيها ابن هشام الأنصاري المدرستين البصرية و الكوفية ، و سيتم عرض المسائل التي خالف فيها المدرسة الكوفية أولا و هي خمس مسائل ، ثم المسائل التي خالف فيها المدرسة البصرية و هي خمس مسائل أيضا ، و في الختام يتم عرض أبرز النتائج .

المسألة الأولى ﴿ "نعم" و"بئس" أفعلان أم اسمان ؟ ﴾
1- مذهب الكوفيين :
إن هذه المسألة من المسائل التي دار حولها الخلاف بين مدرستي البصرة والكوفة ، فابن هشام في هذه المسألة كان مخالفا لمدرسة الكوفة ،فالكوفيون ذهبوا إلى أن "نعم " و" بئس " هما اسمان ، قالوا : والدليل على أنهما اسمان دخول حرف الخفض عليهما ، فإنّه قد جاء عن العرب أنها تقول : "ما زيد بنعم الرجل "، قال حسان ابن ثابت رضي الله عنه :
ألست بنعم الجار يؤلف بيته أخا قلة أو معدم المال مصرما
والاستشهاد بالبيت في قوله "بنعم الجار " فإنهم استندوا إلى ظاهر هذه العبارة فزعموا أن" نعم " اسم بمعنى "الممدوح "بدليل دخول حرف الجر عليه ، وقد علمنا أن حرف الجر لا يدخل إلا على الأسماء"(1)
قالوا : وحُكي عن بعض الفصحاء العرب أنه قال : نعم السير على بئس البعير "، ومنهم من قال : تقول : " يا نعم المولى ويا نعم النصير" فندائهم نعم يدل على الاسمية لأن النداء من خصائص الأسماء ، ولو كان فعلا لما توجه نحوه النداء .
قالوا : ولا يجوز أن يقال " إن المقصود بالنداء محذوف للعلم به ، والتقدير فيه "يا الله نعم المولى ونعم النصير أنت " فحذف المنادى لدلالة حذف النداء عليه لما حذف حرف النداء لدلالة المنادى عليه ، نقول : الجواب عن هذا أن المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولي حرف النداء فعل أمر ، وما جرى مجراه كقراءة الكسائي وغيرهم "ألا يا اسجدوا لله " أراد يا هؤلاء اسجدوا ".
وهذا جملة ما احتج به الكوفيون على نصر مذهبهم .
2- مذهب ابن هشام:
أما ابن هشام فقد ذهب عكس التيار الكوفي في المسألة فقال :" ولما كان من الأفعال الماضية ما اختلف في فعليته نصصت عليه ونهبت على أن الأصح فعليته وهو أربع كلمات "نعم "و"بئس" و"عسى "و"ليس "..."(2) ، ومن هذا الكلام يتضح أن ابن هشام يرى أن "نعم "و"بأس " فعلان ، ولم يتردد في تخطئة الكوفيين قال :
" والصحيح أن الأربعة أفعالٌ بدليل اتصال تاء التأنيث الساكنة بهنّ، كقوله صلى الله عليه وسلم " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل ".
والمعنى " من توضأ يوم الجمعة فبالرخصة أخذ ، ونعمت رخصة الوضوء .
وتقول " بئست المرأة حاملة الحطب "(3) ، ثم بعد ذلك رد على استدلالهم وتأويلهم قال : "وأما ما استدل به الكوفيون فمؤول على حذف الموصوف وصفته ، وإقامة معمول الصفة مقامها ، والتقدير " ما هي بولد مقول فيه ، نعم الولد ، و نعم السير على عيرٍ مقول فيه بئس العير ، وحرف الجر في الحقيقة إنما دخل على اسم محذوف كما بينا وكما قال الأخر :
والله ما ليلى بنام صاحبه ولا مخالط الليان جانبه
أي بليل مقول فيه نام صاحبه "(4).
والشاهد في هذا البيت هو قوله :" بنام" فالباء حرف جر ، ونام فعل ماضي ، وهذان أمران متفق عليهما بين البصريين والكوفيين ، ومن المتفق عليه بينهما أيضا أن حرف الجر لا يدخل في اللفظ و التقدير جميعا على الفعل ، وإذا كان كذلك فقد اتفقوا على أن هذه الباء داخلة في التقدير على اسم ، وقد روى البصريون هذا البيت لإبطال حجة الكوفيين .
وقد نبه محمد محي الدين على أمر مهم جدا وهو أنه لا يلزم من دخول حرف الجر في اللفظ على كلمة ما أن تكون هذه الكلمة اسما لأنه يجوز أن يكون التقدير حرف الجر داخل على كلمة أخرى محذوفة من اللفظ كما في هذا البيت (5).
ومن هذا يتضح أن دخول "الباء على "نعم "و"بئس" غير دال على اسميتهما ، ويبقى الدليل على فعليتهما دخول تاء التأنيث واطرداه في الكلام .



ـــــــــــــــــــــــــــــ

1- محمد محي الدين عبد الحميد ، الانتصاف من الإنصاف ، ص:97.
2- ابن هشام الأنصاري ، شرح قطر الندى وبل الصدى ، ص: 47
3- ابن هشام الأنصاري ، شرح قطر الندى وبل الصدى ، ص :48.
4- ابن هشام الأنصاري ، شرح قطر الندى وبل الصدى ، ص: 48.
5-محمد محي الدين ، سبيل الهدى شرح قطر الندى ، ص: 49