الغلو كما يكون في التجريح يكون أيضا في التعديل
 

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،أما بعد:فإن القوم على اختلاف انحرافهم من صوفية وإخوانية ومميعة وغيرها من طوائف الضلال قد ملؤوا الدنيا بالكلام على الغلو والتحذير منه مصورين للناس أن منهج أهل السنة في التحذير من المخالف من الغلو المذموم الذي تتنزل عليه النصوص الذي وردت فيه،وإن من وراء هذا الصراخ ألمهم من سياط أهل الحق الذي أقض مضاجعهم وزلزل كيانهم،لأنه سلاح أهل السنة الذي يضربون به أهل الباطل حتى تهجر مجالسهم ويترك السماع منهم تعظيما للحق وحماية للناس من ضلالهم،وإن القوم تناسوا أن هناك نوع من الغلو لا يتكلمون فيه اطلاقا ولا يشيرون إليه ببنت شفة ألا وهو الغلو في التعديل،فالغلو في التجريح والتعديل مذمومان في شرع رب العالمين قال تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) [المائدة 77] قال الشوكاني في فتح القدير 2/75:(لَمَّا أَبْطَلَ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ نَهَاهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ كَإِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِعِيسَى، كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، أَوْ حَطِّهِ عَنْ مَرْتَبَتِهِ الْعَلِيَّةِ كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْغُلُوِّ الْمَذْمُومِ وَسُلُوكِ طَرِيقَةِ الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ وَاخْتِيَارِهِمَا عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:( ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم.)نقلا من فتح المجيد ص190

فتأمل يا رعاك الله أن تعالى ذم الطائفتين في غلوهم لأن كلا من الإفراط والتفريط مجاوزة للحد الذي يعد غلوا مذموما.
وإن أهل السنة والجماعة السلفيين،أهل الأثر وسط بين الإفراط والتفريطـ، في جميع أبواب الدين ومن ذلك ما يتعلق بالكلام على الناس والحكم عليهم،فلا يجرحون إلا من يستحق ذلك من أهل الأهواء،ولا يعتدون ولا يعدلون من لا يستحق التعديل ممن لم يكن مرضيا في منهجه ودينه وخلقه وعلمه،ولا سيما من يتظاهر أنه من أهل السنة ثم إذا به يخالط أهل الأهواء ويركن إليهم،بل ويدافع عنهم ويؤصل الأصول والقواعد لحمايتهم،فهو مع انتسابه لمنهج السلف لا يمكن لأهل الحق أن يعدلوه ويزكوه ديانة وتقربا إلى الله بذلك لا لأغراض في نفوسهم وحسدا وتنافسا على الرئاسة في الدين.

أما أهل الأهواء الذين أشرنا إليهم فهم يمشون على قاعدة المعذرة والتعاون فتضيق صدورهم بالكلام على المخالفين والتحذير منهم ويصورون أنها من الغيبة المحرمة وأنها تفرق الصف وتنشر الكراهية بين الناس،ومع ذلك تجدهم يثنون على أهل الباطل والضلال.

ويزددا هؤلاء غلوا -والعياذ بالله-مع أهل الحق فيجمعون بين تفريطهم الشديد مع أهل الباطل وتمييع الخلاف معهم في مقابل التشديد والتضييق والهمز واللمز والطعن في أهل الحق،ورميهم بالتشدد والغلو وغيرها من الأوصاف التي يقصدون بها التنفير عن السلفيين.

فكما لا يجوز تجريح من لا يستحق التجريح، فلا يجوز تعديل من لا يتستحق التعديل وإبرازه للناس على أنه الداعية الذي يؤخذ عنه العلم ويستفاد من دروسه وهو غارق في التأصيل الباطل والانحراف المنهجي.
فينبغي الحذر من المسلكين من الغلو في التجريح بأن يتجاوز العبد حده بالكلام في الناس بغير عدل ولا زهد ولا ورع ولا خوف متجانبا طريقة السلف في ذلك،والحذر من الغلو في التعديل بأن يعدل كل من يتكلم في العلم أو يحمل شهادة أو رحل في طلبه من غير نظر في علمه هل يسري فيه على طريقة أهله في تحصيله ونشره ثم في العمل بما تعلمه خلقا وتزكية وفضلا،مجتنبا آفات الطريق من غرور وعجب وكبرياء وحب للرئاسة والطغيان في العلم،ثم بالنظر إلى خلطته ومدخله ومخرجه،وجلسائه وأخدانه وخلانه،ثم بالنظر في مواقفه في دعوته من أهل السنة وأعدائهم من أهل الباطل،وأسأل الله تعالى أن ينجينا من فتنة الغلو وأن يرزقنا الوسطية في جميع شؤوننا إنه سميع مجيب.

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
ونفع بكم وبما تقدمون .