سلسلة تيسير طلب العلم : (3) شرح الأصول من علم الأصول ( تدريجيا )
الحمد لله رب العالمين ؛ و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين ؛ و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين ؛ و من اقتفى أثرهم إلى يوم الدين أما بعد : سلام عليكم و رحمة الله و بركاته سأرفع في هذا الموضوع - بإذن الله تعالى - شرح الشيخ العثيمين -رحمه الله - على رسالته في الأصول " الأصول من علم الأصول " و ذلك تدريجيا إن شاء الله تعالى و أرجو من الإخوة ألا يضيفوا أمورا أخرى في التعريفات و الاختلافات بين أهل العلم في اصطلاحاتهم , حفظا على تيسير الشرح , و سهولة استيعابه للناشئين ؛ فأرجو الاقتصار على ما ذكره الشيخ لأن الشرح هذا موجه للمبتدئين على وجه الخصوص و من كان لديه استفسار أو طلب زيادة بيان فليضع ذلك , لعل أحدنا يعينه في فهم ما لم يفهم و يمكنكم تحميل الرسالة من هنــــــا و للإشارة , و إن كانت الرسالة تبدو مبسوطة , فقد زاد الشيخ شرحا لها في دروس له مسموعة ؛ فهذا الذي سأقوم برفعه , لأنه لابد من شرحه ليتم الفهم جيدا , لأن الشيخ أعلم بمقصوده من غيره رحمه الله تعالى , و أسكنه الفردوس الأعلى , لما قدمه لخدمة العلم الشرعي و الحمد لله في الأولى و الآخرة |
ملاحظة : المتن الفوق بالأحمر , و الشرح بالأزرق أصُــول الفِـقْـه تعريفه: أصول الفقه يعرّف باعتبارين: الأول: باعتبار مفردَيهِ ؛ أي: باعتبار كلمة أصول، وكلمة فقه. فالأصول: جمع أصل ؛ وهو ما يبنى عليه غيره ؛ ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه أغصانها قال الله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ )) (إبراهيم:24). والفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: (( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي () يَفْقَهُوا قَوْلِي )) (طـه:27 -28) . واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية. ---------------------------------------------------------- -و قوله :" أصول الفقه " تعرفون أن هذه الكلمة مكونة من مضاف و مضاف إليه ؛ إذا لابد أن نعرف المضاف و المضاف إليه ؛ فيكون أصول الفقه يُعرف باعتبارين. -و قوله : " أولا : باعتبار مفرديه " أي باعتبار كلمة " أصول " و كلمة " فقه " ؛ كل واحد منهما على حدة. و واضح الآن – كما ترون – أنه مكون من مضاف و مضاف إليه ؛ فنعرفه الآن باعتبار المضاف وحده , و باعتبار المضاف إليه وحده , ثم نعرفه باعتباره مضافا. - و قوله : " فالأصول: جمع أصل ؛ وهو ما يبنى عليه غيره ؛ ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه أغصانها قال الله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ )) (إبراهيم:24) " إذاً : الأصول جمع أصل ؛ و تعريفه : ما يُبنى عليه غيره ؛ فأساس الجدار يُسمى أصلا , لأنه يُبنى عليه الجدار ؛ و أصل الجدار كانوا يجعلونه حجارة , و الآن يسمونه " ميدة " ؛ و جذع الشجرة يُسمى أصلا , لأنه يتفرع عنه أغصانه ؛ و أبو الإنسان و جده يسمى أصلا , لأنه يتفرع منه أولاده ؛ و على هذا فقِسْ. فالأصل ما يُبنى عليه غيره. - قوله:" والفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: (( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي () يَفْقَهُوا قَوْلِي )) (طـه:27 -28) " أي : يفهموا. فالفقه في اللغة أعم من الفقه في الاصطلاح ؛ لأن الفقه في اللغة يُسمى فهما ؛ تقول : (فَقِهَ الرجل كلامي ) أي فهمه ؛ قال – تعالى - : (( و لكن لا تفقهون تسبيحهم )) [الإسراء :44] أي : لا تفهمونه. -وقوله : " واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية. " و عدلنا عما يُعبِّر به كثير من الأصوليين : " معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها التفصيلة " لأن شيخ الإسلام –رحمه الله – أنكر أن تنقسم أحكام الإسلام إلى أصل و فرع ؛ و قال إن هذا التقسيم بدعة و لا أصل له في كلام الله و لا كلام رسوله ؛ قال : لأن هؤلاء يجعلون مثلا من الفروع , و هي من أصل الأصول ؛ فكيف نقول : أصول و فروع ؟! من جاء بهذا التقسيم ؟! و لهذا عدلنا فقلنا : " عملية " |
بارك الله فيك
اين قال قال شيخ الاسلام هذا الكلام ؟ |
فالمراد بقولنا: "معرفة" ؛ العلم والظن؛ لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيًّا، وقد يكون ظنيًّا، كما في كثير من مسائل الفقه.
والمراد بقولنا: "الأحكام الشرعية" ؛ الأحكام المتلقاة من الشرع ؛ كالوجوب والتحريم ؛ فخرج به الأحكام العقلية , كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء ؛ والأحكام العادية , كمعرفة نزول الطل في الليلة الشاتية إذا كان الجو صحواً. والمراد بقولنا: "العملية" , ما لا يتعلق بالاعتقاد ؛ كالصلاة والزكاة ؛ فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد , كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته ؛ فلا يسمّى ذلك فقهاً في الاصطلاح. والمراد بقولنا: "بأدلتها التفصيلية" , أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية ؛ فخرج به أصول الفقه , لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية. قوله : "فالمراد بقولنا : (معرفة) : العلم و الظن" فالمعرفة هنا تشمل العلم و الظن ؛ لأن إدراك الأحكام الشرعية بعضه علمي , و بعضه ظني ؛ و لهذا فإن مسائل الاجتهاد التي يختلف فيها أهل العلم غالبها ظني , و ليست بعلمية ؛ و لو كانت علمية لما اختلفوا فيها ؛ لكنها غالبها ظني ؛ فالمعرفة أيضا تُطلق على العلم و الظن , كما في كثير من مسائل الفقه. و لذلك لا يُوصف الله بأنه عارف , و لكن يوصف بأنه عالم ؛ لأن المعرفة تشمل العلم و الظن. و قوله : " لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيا و قد يكون ظنيا ,كما في كثير من مسائل الفقه" و لهذا قلنا في التعريف – تعريف الفقه – "معرفة" ليشمل العلم و الظن ؛ لأنه يوجد مسائل كثيرة من أحكام الفقه كلها ظنية. فمثلا : الذي يأكل الجيف , فالحكم بأنه حرام ؛ ظني أم يقيني ؟ هو ظني ؛ و الذي يُستخبث ؟ الحكم ظني ؛ و لهذا تجدون أقوالا راجحة على هذا القول ؛ و مع ذلك نسميها فقها , و نُدخلها في كتب الفقه ؛ لأن الفقه إما علم و إما ظن. سؤال : فإذا قلت كيف يصح لك أن تقول هكذا , و قد قال الله – تبارك و تعالى - : (( إن يتبعون إلا الظن )) [النجم:23] ؛ و قال : (( إن بعض الظن إثم )) [الحجرات : 12] ؛ و قد أنكر الله على من يتبعون الظن ؟ الجواب: نقول: إن الظن إذا كان مبنيا على اجتهاد , فهذا ما يستطيعه الإنسان (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) [البقرة : 286] , و لهذا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران , و إن أخطأ فله أجر )) (1) ؛ و معلوم لو كان حكم الحاكم يقينيا كان يكون صوابا ؛ فإذاً , الظن المذموم هو الذي لا يبنى على أساس. مثال : جاء رجل عامي يسأل : إيش تقول في هذا ؛ هل هو جائز أم حرام ؟ ؛ قال : أظنه حراما.فهذا غير جائز ؛ لكن لو كان هناك رجل مجتهد تأمل في الأدلة فغلب على ظنه أن هذا هو القول الراجح ؛ فهذا لا شيء فيه ؛ لأن هذا منتهى استطاعته. سبق لنا أن أصول الفقه يُعرّف باعتبارين : الاعتبار الأول : باتعبار مفرديه ؛ أي باعتبار كل واحد على حدة. و الثاني : باعتباره مركبا اسما لهذا الفن المعين ؛ و سيأتي إن شاء الله. فالأصول جمع أصل ؛ و الفقه لغة : الفهم ؛ و منه قوله – تعالى - : (( و احلل عقدة من لساني (27)يفقهوا قولي )) [طه:27 , 28] , و قوله –تعالى - : (( و لكن لا تفقهون تسبيحهم ))[الإسراء : 44]. و في الاصطلاح : معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية ؛ فسبق أن معنى "معرفة" أنه : العلم أو الظن ؛ يعني كلمة " معرفة " عند العلماء تُطلق على العلم و الظن ؛ و سبق لنا أن المعرفة غالبا تُقال في المحسوس ؛ و العلم يكون غالبا في المعقول. فتقول : عرفتُ فلانا ؛ يعني عرفت أن هذا هو فلان ابن فلان. و تقول: علمت حكم الوضوء ؛ و هذا في الأشياء المعقولة المعنوية. و سبق لنا أنه لا يوصف الله بأنه عارف ؛ لأن المعرفة تشمل العلم و الظن ؛ و قالوا : لأن المعرفة انكشافٌ بعد لُبْسٍ ؛ أي : بعد خفاء ؛ تقول مثلا : تأمَّلتُ هذا الشيء حتى عرفته. و على كل حال , الأصل في الصفات أن لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه ؛ و أما قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة )) (2) ؛ فالمراد بقوله : (( يعرفك في الشدة )) لازم ذلك , و هو العناية بك ؛ و ذلك لأن قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( تعرّف إلى الله )) ليس معناه : افعل شيئا يعرفك به ؛ لأنه يعرفك سواء تعرّفت أو لم تتعرّف. و قوله " و المراد بقولنا : (الأحكام الشرعية ) " المراد به : الأحكام المتلقاة من الشرع ؛ و لهذا وصفناها بأنها شرعية. و سيأتي أيضا تعريف الحكم ؛ و نحن الآن نتكلم عن محترزات القيود , كالوجوب و التحريم و الكراهة و الندب ؛ لكن المثال لا يدل على الحصر. فالأحكام الشرعية هي ما تُلقيَ عن الشرع كالوجوب و التحريم ؛ و خرج بذلك الأحكام العقلية . فأصول الفقه لا يبحث في الأحكام العقلية ؛ و أما العلل التي يُعلِّل بها الفقهاء الأحكام , فهي علل شرعية في الواقع متلقاة من الشرع ؛ يعني : أن العلماء تدبّروا فوجدوا أن الشرع يُلاحظ هذه الحكمة , فربطوا الحكم بها. و قوله : " الأحكام العقلية , كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء" فلو قال لك قائل : أيهما أكبر : الكل أم النصف ؟ تقول : الكل . فهل في القرآن أن الكل أكبر من النصف ؟ لا ؛ و لكنه عقلا ؛ و هذا شيء ضروري. كل حادث لابد له من محدِث ؛ و الدليل عقلي ؛ و كذلك الأحكام الحِسية أو العادية , كمعرفة نزول الطل في الليلة الشاتية إذا كان الجو صحواً. و قوله " و الأحكام العادية : كمعرفة نزول الطلّ في الليلة الشاتية إذا كان الجو صحوا" مثلا , نحن الآن في الشتاء , و في ليلة صحو ؛ قلنا : سينزل الليلة طلّ - و الطل هو الندى الذي يكون في الصباح - فهذا حكم لا عقلي و لا شرعي ؛ و لكنه عادي - يعني جرت العادة بهذا - ؛ و نقول أيضا : إذا أخذت نصف حبة إسبيرين و رأسك يُوجعك هان عليك ؛ فهذا حكم عادي ؛ فكل ما تم بالتجارب أو جريان العادة فهو عادي. فنبين لنا الآن أن الأحكام ثلاثة : شرعية و عقلية و عادية. و الفقه يتعلق بالأحكام الشرعية المتلقاة من الشرع. و قوله " و المراد بقولنا ( العملية ) ما لا يتعلق بالعتقاد " لأن أحكام الشرع منها ما يتعلق بالاعتقاد -كوجوب الإيمان بالله و أسمائه و صفاته و أفعاله - فهذا لا يدخل في الفقه. و منها ما يتعلق بأفعال المكلف ؛ فهذا هو الذي يدخل في الفقه. و قوله : "كالصلاة و الزكاة ؛ فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد كتوحيد الله و معرفة أسمائه و صفاته ؛فلا يُسمى ذلك فقها في الاصطلاح " لكن في الشرع يُسمى فقها , و في اللغة يُسمى فقها ؛ لكن في الاصطلاح لا يُسمى فقها. و قد قيل " لا مُشاحة في الاصطلاح " إذا لم يخالف النص أو الشرع ؛ فما دام هذا لا يُخالف الشرع , بمعنى أن الفقهاء يقولون : نحن نؤمن بأن العلم بالتوحيد من الفقه , لكن اصطلحنا على أن الفقه خاص بهذه النوع من المسائل من العلم؛ فهل نُنكر عليهم ؟! لا! ؛ و لكنا نقول لهم : إن علم التوحيد هو الفقه الأكبر ؛ لأن الفقه : فقه في ذات الله , و في أسمائه و صفاته و أفعاله و أحكامه؛ فكل هذا يُسمى فقها. و معرفة الله بأسمائه و صفاته أعظم من كل شيء ؛ و لهذا سماه العلماء الفقه الأكبر ؛ و عليه فقوله – صلى الله عليه وسلم - : (( من يُرد الله به خيرا يفقهه في الدين )) (3) , يتناول هذا و هذا. و قوله : " و المراد بقولنا : (بأدلتها التفصيلية ) أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية " معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية ؛ يعني -مثلا- قال يُشترط لصحة الوضوء النية لقوله – تعالى - : (( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا )) [المائدة : 6] , دَلَّ ذلك على إرادة الغسل ؛ و لقوله – صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الأعمال بالنيات )) (4) , فهنا أتينا بحكم مسألة , و ذكرنا دليلها على سبيل التفصيل. لكن إذا قلت : كل من عمل عملا ناقص الشروط فعمله باطل لقوله – صلى الله عليه وسلم - : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) ؛ و هذا ليس بفقه , هذا يتعلق بأصول الفقه ؛ لأن هذا عبارة عن كلام عام , قاعدة من القواعد الفقهية ؛ و على هذا نقول : التفصيلية . و قوله : " أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية ؛ فخرج به أصول الفقه لأن البحث فيه إنما يكون في الأدلة الإجمالية " مثل : العام و الخاص و المطلق و المقيد و الناسخ و المنسوخ , و ما أشبه ذلك. فيتكلمون في الفقه عن هذه الأشياء على سبيل العموم ؛ و لكن في الفقه يُتكلم على كل مسألة: هذا حرام , و هذا حلال , و هذا مسنون , و هذا واجب ؛ فيتكلم عن المسائل التفصيلية. فلنَعُد الآن إلى تعريف الفقه , و هو " معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية " ----------- (1) متفق عليه ؛ البخاري (6919) , مسلم (1715) , من حديث عمرو بن العاص – رضي الله عنه – مرفوعا , و لفظه : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ؛ و إذا حكم اجتهد ثم أخطأ فله أجر )). (2) صحيح الجامع (2961). (3) متفق عليه ؛ البخاري (71) , و مسلم (1037) ؛ عن معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنهما – (4) متفق عليه ؛ رواه البخاري (1) , و مسلم (1907) ؛ من حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه - . |
الثاني: باعتبار كونه لقباً لهذا الفن المعين , فيعرف بأنه: علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
فالمراد بقولنا: "الإجمالية" القواعد العامة , مثل قولهم: الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصحة تقتضي النفوذ ؛ فخرج به الأدلة التفصيلية , فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل للقاعدة. والمراد بقولنا: "وكيفية الاستفادة منها" معرفة كيف يستفيد الأحكام من أدلتها بدراسة أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك ؛ فإنَّه بإدراكه يستفيد من أدلة الفقه أحكامها. والمراد بقولنا: "وحال المستفيد" معرفة حال المستفيد - وهو المجتهد - سمي مستفيداً لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد ؛ فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه. ----------------------------------------- قوله : " أما الثاني : باعتبار كونه لقبا لهذا الفن المعيَّن " و الفن المعين هو " أصول الفقه " ؛ و قد سبق لنا ان أول من ألّف فيه الشافعي –رحمه الله- ثم تابعه الناس. و قوله : " فيعرف بانه : علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية " هذا واحد و قوله : "وكيفية الاسفادة " : هذا الثاني وقوله : "حال المسفيد": وهو الثالث . وقوله : "علم" : خرج به الجهل ؛ فلا يمكن أن يكون الجاهل بأصول الفقه أصوليا . وقوله : "يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية " : خرج به الفقه ، لأنه يبحث عن الفقه وأدلته التفصيلية ؛ فتجده يبحث في العام : ما هو ، وما حكمه ؛ والخاص: ما هو ، وما حكمه ؛ والمطلق : ما هو ، وما حكمه ؛ والمقيد : ما هو ، و ما حكمه ؛ والناسخ والمنسوخ ؛ و ما أشبه ذلك ؛ فهذه أدلة إجمالية . المهم أنه ليس يبحث عن شيء معين ؛ بل يبحث عن أدلة العموم ، وما صيغه ، و ما أشبه ذلك. وقوله : " و كيفية الاستفادة منها " : وهذا يحصل بتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، والجمع بين النصوص المتعارضة ، و ما أشبه ذلك ؛ وهذا كيفية الاستفادة منه لأن "العام " حكمه : العمل بعمومه . إذاً كل جزئية تدخل تحت هذا اللفظ العام أحكمُ لها بحكم اللفظ العام ؛ فهذا كيفية الاستفادة ؛ لأن أصول الفقه ليس يعطيك الأدلة الإجمالية ويسكت ؛ بل يريد أن يُعرِّفك كيف تستفيد منها. فإذا أوردتُ قول النبي – صلى الله عليه وسلم- : (( فيما سقت السماء العشر )) (1) ، وجدت أن هذا عام من وجهين : من حيث الجنس , و من حيث القدر: ((فيما سقت السماء العشر)) : عام في جنسه وفي قدره ؛ فإذا أخذت بهذا العام على ظاهره قلتَ : تجب الزكاة في كل قليل أوكثير خارج من الأرض سواء يُكال أو يُدَّخر أو يُقتات أو أي نوع كان ؛ لأن الحديث عام ؛ ولكن أصول الفقه تبين لك كيف تستفيد من هذا الحديث . نقول : في أصول الفقه إذا ورد العام وورد ما يُخصصه ، فاحمل العام على الخاص . فنأتي إلى المقدار ونقول إن الرسول –صلى الله عليه و سلم - يقول : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) (2) إذاً العشر هل يجب على من يملك أربعة أوسق ؟ لا . . لأن الحديث الثاني قد خصّص الحديث الأول. فمن أين تعرف أن العام يُخصص إلا بعد دراسة أصول الفقه ؛ فهو الذي يعطيك هذا العلم . فقوله –صلى الله عليه و سلم - : ((فيما سقت السماء العشر )) عام في جنسه يشمل كل شيء خرج من الأرض سقته السماء ، لكن إذا عدتَ على قوله – صلى الله عليه وسلم - :(( ليس فيما دون خسر أو صدقة )) عرفتَ أنه لا زكاة إلا فيما يُوسّق - أي يجعل أحمالا- وهو المكيل والموزون ؛ فخرج بذلك ما لا يُكال ولا يوزن ، فليس فيه زكاة . إذا ففائدة أصول الفقه عظيمة ؛ لأنه يعرفك كيف تستفيد من الأدلة . و قوله " و حال المستفيد " حال المستفيد من الأدلة ؛ مَن الذي يستفيد من الأدلة ؟ قالوا : إنه المجتهد ( يعني القادر على استنباط الأحكام من الأدلة ) لكن مع ذلك فأصول الفقه يبحث في حال المُقلِّد ، لأن التقليد قسيم الاجتهاد ؛ فلذلك تجد الأصوليين يتكلمون عن المجتهد ويتكلمون أيضا عن المقلد وحكم التقليد وما يتعلق بذلك. فصار موضوع أصول الفقه ثلاثة أشياء : الأول : أدلة الفقه الإجمالية. الثاني: كيف نستفيد من هذه الأدلة . الثالث: حال المستفيد من هذه الأدلة ، وهو المجتهد . يعني يبحث في الفقه ، ومن هو المجتهد ؛ فليس كل إنسان مجتهدا ؛ فلا بد من شروط وضوابط يعرف بها من هو المجتهد ،ومن هو المقلد ؛ لا بد من شروط يعرف بها المقلد ممن يجب عليه أن يجتهد ويأخذ الأدلة بنفسه من نصوصها . فصار علم أصول الفقه ني الحقيقة علما مهما ؛ فلا ينبغي لطالب العلم أن يفرط فيه ؛ و مع كونه يُسمى "أصول الفقه " فهو أصول أيضا لغير الفقه ؛ إذ يمكن أن تستخدمه في باب التوحيد ؛ ولهذا كيف نعرف أن الصفات التي وصف الله بها نفسه مغايرة لصفات المخلوقين إلا بقواعد أصول الفقه ؟ ! وهو : أن نحمل هذه الظواهر على مثل قوله -تعالى- : (( ليس كمثله شيء)) [الشورى :11]. ونقول : إن هذه الظواهر إن كان يُفهم منها على سبيل الفرض لا على سبيل الواقع أنها تماثل صفات المخلوقين ؛ فإن قوله –تعالى-: (( ليس كمثله شيء )) يمنع هذا الفهم الفاسد . على أن الصحيح أنه لا يمكن أبدا أن يُفهم من الصفات التي أضافها الله لنفسه أن يُفهم منها ما يُفهم من صفات المخلوقين ؛ وهذا قررناه من قبل : أن الصفات بحسب ما تضاف إليه ؛ فإذا أضيفت إلى الله فهي ليست كما أضيفت إليه . ولهذا لو قلتَ : "يد الذَرَّة " (3) فهل يَفهم المخاطب أنها على حجم يد البعير؟! لا يفهم هذا ! بل يفهم أن لها يدا تناسبها . إذا فلا يمكن أن نفهم من قوله -تعالى- : (( بل يداه مبسوطتان )) [المائدة: 64] أن يديه كأيدينا ، فإن هذا مستحيل ؛ لأنها منسوبة إلى الله -عز وجل- ، فهي تليق به ؛ و لهذا فنحن نهدم قول من يقول : إن الذي يفهم من هذه الآيات هو ما يماثل صفات المخلوقين لكن منع ذلك قوله -تعالى- : ((ليس كمثله شيء )) نمنع هذا ، لأن أصل هذا الفهم خطأ ؛ إذ لا يُمكن أن تفهم الصفات إلا على حسب ذلك المخلوق. إذا فيمكن أن نستخدم أصول الفقه في باب التوحيد ، وفي باب التفسير، و في باب الحديث ، وفى كل شيء ، فهو من المهمات جدا . ------------------ (1)- رواه البخاري. (2)- متفق عليه. (3)- أي : النملة. |
فائدة أصول الفقه:
إن أصول الفقه علم جليل القدر، بالغ الأهمية، غزير الفائدة فائدته: التَّمَكُّن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة. وأول من جمعه كفنٍ مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس -رحمه الله- ؛ ثم تابعه العلماء في ذلك، فألفوا فيه التآليف المتنوعة، ما بين منثور، ومنظوم، ومختصر، ومبسوط ؛ حتى صار فنًّا مستقلا ، له كيانه ومميزاته. *************************************** وقوله : " إن أصول الفقه علم جليل القدر بالغ الأهمية غزير الفائدة " : هذه الكلمات ربما تقال لكل شيء ؛ فكل إنسان يمكنه أن يقول عن فنه : إنه غزير الفائدة و بالغ الأهمية ، وما أشبه ذلك ؛ لكن ما كل من ادعى شيئا قبلت دعواه . وقوله : " فائدته : التمكن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها عل أسس سليمة " : وهذه فائدة عظيمة ؛ يعني أنك إذا عرفت أصول الفقه ، أمكنك أن تستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها ؛ فهو –إذا- غزير الفائدة . ولنضرب مثلا للعموم : قال الله –تعالى- : (( وأوْلات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )) [الطلاق : 4] ؛ من أين تعرف أن المرأة إذا وضعت بعد موت زوجها بدقائق انتهت عدتها ؟ إذا كنتُ قد درستُ علم أصول الفقه أقول : ظاهر الآية (( وأوْلات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )) أن المرأة لو وضعت بعد موت زوجها بدقائق .انتهت مدتها . من أين أخذت هذا ؟ إلا من العموم ؛ لأن العموم يشمل جميع أفراده ؛ هكذا درسته في أصول الفقه . قال النبي –صلى الله عليه وسلم - : (( فيما سقت السماء العشر )) فإذا حصل الإنسان من زرعه خمسة أصواع وجب فيها نصف صاع ؛ من أين عرفت أنه إذا كان خمسة أصواع وجب فيه نصف صاع؟ إلا من العموم ! لأني درست في أصول الفقه أن " ما " الموصولة تفيد العموم ، وهذا منها . لكن أقول : درست –أيضا- في أصول الفقه أن العام قد يُخصَّص ؛ و رأيت حديثا قال فيه النبي –صلى اله عليه و سلم- : (( ليس فيما دون خمسه أوسق صدقة )) وبناء على ذلك ، فإن خمسة أصواع ليس فيها زكاة ؛ و قد عرفت ذلك لأني في دراستي لأصول الفقه تبين لي أن العام يحمل على الخا، فيخصص بالخاص . . . إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة . فالإنسان إذا درس في أصول الفقه لا شك أنه يستفيد فائدة عظيمة ، و هي : التمكن من استخراج الأحكام الشرعية بوجه سليم لا تناقض فيه . وقوله: " وأول من جمعه كفن مستقل: الإمام الشافعي محمد بن إدريس - رحمه الله - ثم تابعه العلماء في ذلك ، فألفوا فيه التآليف المتنوعة : ما بين منثور ومنظوم ، ومختصر ومبسوط ؛ حتى صار فنا مستقلا له كيانه ومميزاته ": ومن أحسن ما أُلِّف فيه - بل من أجمع ما ألف فيه - : "مختصر التحرير" ، للفتوحي ؛ وهذا المختصر كتاب صغير ، لكنه في الحقيقة خلاصة ما قاله الأ صوليون في أصول الفقه ؛ وهو مختصر ؛ ويمكن للإنسان أن يحفظه عن ظهر قلب ؛ إلا أنه يحتاج إلى عالم يبين معناه للطالب ؛ فالذي يحفظه عن ظهر قلب ويعرف معناه ، سيكون أصوليا بالمعنى الحقيقي . وكذلك شرحه "الكوكب المنير في شرح التحرير" ، فهذا من أجمع ما رأيت على اختصاره ، وهو يمكن أن يكون نصف زاد المستقنع . أما أحسن ما يكون فيه من العبارات والسلاسة فهو : " المستصفى " للغزالي وهو في مجلدين كبيرين ؛ ولكن في الحقيقة يرتاح الإنسان لقراءته ، لأنه سهل الأسلوب وجيد في عرض الآراء ومناقشتها ؛ وهو من أحسن ما قرأت من جهة التبيين والتنضيم . و " الروضة " مأخوذة منه في الواقع ، على أن مصنف "الروضة" الموفق –رحمه الله – صار أحيانا يحذف بعض الكلمات التي توجب الإشكال و التعقيد في العبارة ؛ و إلا لو رجعت و قارنت بين الروضة و المستصفى للغزالي لوجدت أن الكلام هو نفس الكلام ؛ لكن الموفق –رحمه الله- يتصرف فيه بعض التصرفات أحيانا. و " مختصر التحرير" للفتوحي من الحنابلة ؛ و " التحرير" للمرداوي علي بن سليمان صاحب كتاب " الإنصاف " ، و هو أكبر ؛ و " الورقات" على اسمه ورقات . |
الساعة الآن 07:20 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013