تابع: الاختلاف في المصطلحات العقدية (2)
 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فهذه تتمة لما بدأت فيه من الكتابة في هذا الموضوع, وهو الاختلاف في المصطلحات العقدية, ولست ببدع في ذلك, لكن أصله ومبدؤه مقال للشيخ صالح بن محمد العقيل -حفظه الله- المشرف على رسالتي العلمية الماجستير, فسلكت طريقته في ذلك, وأحببت أن يعم النفع, فانتقيت منه بعض المصطلحات, وأضفت إليها بعض الإضافات, تنبيها لذوي الاختصاص وغيرهم من طلاب العلم الشرعي من الوقوع في الزلل والأخطاء, راجيا الأجر والثواب, من الرب ذو الكرم والإفضال.

فأقول مستعينا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
تقدم في الحلقة الأولى الكلام على مصطلح التقليد, وقدمت بين يدي الموضوع بكلام لابن تيمية بين فيه مدى وقوع الغلط في المصطلحات, فقال رحمه الله: ( وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَنْشَأَ الرَّجُلُ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ فَيُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا) مجموع الفتاوى (12/ 107).

وقال أيضا في سياق كلامه على المتشابه: ( ومما يوضح هذا أن كل من لم يكن له خبرة بكلام شخص, أو طائفة بما يريدونه من تلك الألفاظ إذا سمعها تشتبه عليه, ولا يميز بين المراد منها وغيره, بل قد يظن المراد غير المراد, مثل: من يسمع كلام أهل المقالات والصناعات قبل أن يخبر مرادهم ) بيان تلبيس الجهمية (8/ 356).

وكان من المصطلحات العقدية التي وقع فيها اشتباه على بعض الناس: (قول المرجئة في الإيمان: أنه قول), هكذا كان السلف يجيبون عمن سألهم عن حقيقة المرجئة, وقبل سوق كلام السلف في هذه المسألة, وبيان مرادهم بذلك, وذكر غلط بعض الباحثين في تفسير مرادهم بذلك, كان لزاما تعريف مصطلح (المرجئة) في اللغة وفي اصطلاح أهل العلم.

فأما في اللغة:
فالمرجئة: من الإرجاء أو الرجاء.
ومعنى الإرجاء: التأخير؛ منه قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر, فهو مرجئه إرجاء بهمز, وبغير همز: أرجاه فلان يرجيه إرجاءٌ.
ومنه قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه)[الأعراف: 111] بهمز (أرجه) وبغير همز.
وأما معنى الرجاء: فهو الأمل.

وأما في الاصطلاح: فهم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر.
سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهيين:
قوم أرجوا أمر علي وعثمان فقد مضى أولئك.
فأما المرجئة القوم: فهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل, فلا تجالسوهم, ولا تواكلوهم, ولا تشاربوهم, ولا تصلوا معهم, ولا تصلوا عليهم.
انظر: تهذيب الآثار لابن جرير الطبري(2/658).

فتبين مما سبق أن المرجئة في اصطلاح السلف هو المعنى الثاني, وهم الذين يقولون: الإيمان قول, ويخرجون العمل من مسمى الإيمان؛ لأن الأولين قد مضوا, ويدل على ذلك نصوص كثيرة وردت عن السلف تؤيد ما ذكره الإمام ابن عيينة:

قال الفضيل بن عياض(ت178ه): يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل(السنة لعبد الله بن أحمد ص331, رقم793).

ويقول يوسف بن أسباط(ت195ه): أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل(مسائل الإمام أحمد ص377).

وقال وكيع بن الجراح(1ت 196ه): كانت المرجئة تقول الإيمان قول.(مسائل الإمام أحمد ص373).

وعن حرب الكرماني أنه قال: سمعت أحمد(ت244ه) وقيل له المرجئة من هم؟ قال: من زعم أن الإيمان قول.(السنة للخلال 2/565).

وعن المروذي أن أبا عبد الله -يعني أحمد- قيل له: من المرجئ؟ قال: المرجيء الذي يقول الإيمان قول(المصدر السابق). والنصوص عن الإمام أحمد في تفسير المرجئة كثيرة.

هذا هو مقصود السلف بمصطلح المرجئة, والمتبادر إلى الذهن أن مقصودهم بذلك هم الكرامية أتباع محمد ابن كرام الذين يقولون: الإيمان: قول باللسان فقط دون المعرفة القلبية ودون عمل الجوارح, وليس هذا مقصودهم؛ بل مقصودهم بذلك هم مرجئة الفقهاء الذين يقولون: الإيمان قول واعتقاد, ويخرجون الأعمال من الإيمان؛ إذ أن ابن كرام المتوفي سنة(255ه) إنما ظهر بعد زمن هؤلاء الأئمة, فسبقت مقالة مرجئة الفقهاء مقالة الكرامية.

يقول ابن تيمية: (ولم يكن ابن كرام في زمن أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة, فلهذا يحكون إجماع الناس على خلاف هذا القول) مجموع الفتاوى(7/387).

قلت: فضلا على أن يكون في زمن من سبق الإمام أحمد: كالفضيل, ووكيع, ويوسف بن أسباط وغيرهم من الأئمة.

ويقول ابن تيمية مبينا أن هذا القول هو لمرجئة الفقهاء: (..وإلا فالقائلون بأن الإيمان: قول من الفقهاء كحماد بين أبي سليمان, وهو أول من قال ذلك, ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم...) مجموع الفتاوى(7/297).

فإذا ظهر ذلك: فقد وقع بعض الباحثين في الغلط؛ حيث ظن أن مراد السلف بالمرجئة: هم الكرامية, وزعم أن الإمام أحمد ينقض في كتابه مزاعم الكرامية؛ فقال بمنطوق لسانه: (والإمام أحمد ينقض في كتابه هذا مزاعم مرجئة الكرامية القائلين: إن الإيمان هو مجرد إقرار اللسان فقط..) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة(1/70): لمحققه: الدكتور عبد الإله الأحمدي.

وبذلك أيضا فسر مراد السلف الدكتور الشيخ عطية الزهراني كما في تحقيقه للسنة للخلال, فقال في الحاشية رقم(7) من كتاب السنة(1/565) معلقا على كلام الإمام أحمد السابق: (وهذا قول الكرامية).

وهذا غلط فاحش, كما تقدم بيانه, كيف وهؤلاء الباحثون من ذوي الاختصاص, والشهادات العليا, فالواجب على كل طالب علم الاعتناء بالمصطلحات العلمية عموما, وبمصطلحات السلف على وجه الخصوص, ليقل غلطه على الأئمة, وعلى الشريعة, والله المستعان.

ومما ينبه عليه أن هؤلاء الصنف قد كثر كلام السلف في ذمهم, وتبديعهم, والتغليظ عليهم, ونصوصهم في ذلك كثيرة جدا, منتشرة مشتهرة, قد ملئت بها كتب السنة والعقائد, وما ذلك إلا أن هذه البدعة الشنعاء كان لها الأثر السيء الواضح في الأمة الإسلامية.

فقال منصور بن المعتمر: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة(السنة لعبد الله ص270 رقم600)
وقال شريك وقد ذكرت عنده المرجئة: هم أخبث قوم, وحسبك بالرافضة خبثا, ولكن المرجئة يكذبون على الله(السنة لعبد الله ص271, رقم601).
وقال إبراهيم -يعني النخعي-: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب السامري.(السنة ص272, رقم605, وشرح أصول الاعتقاد للالكائي 3/1061, رقم1807)
وقال سعيد بن جبير: المرجئة يهود القبلة(شرح أصول الاعتقاد3/1061, رقم 1807).
وأمثال ذلك من النصوص عن أئمة السلف الفحول, وبذلك تبطل دعوى أن مرجئة الفقهاء من أهل السنة فتنبه!!, وعض على كلام السلف بالنواجذ, ودع عنك بنيات الطريق.





هذا والله أعلى وأعلم.
وكتبه أبو عبد الله بوفلجة بن عباس
ماجستير في قسم العقيدة بالمدينة النبوية

بارك الله فيك أيها الفاضل وجزاك خيرا

وفيك بارك الله أخي عبد الصمد, وجزاك الله خيرا على المرور الطيب.

أخي الأستاذ بو فلجة

أسعد كثيرا بمشاركاتك

فبارك الله فيك و نفع بك

فعلا موضوع مفيد وشيق

بارك الله فيك أخي الفاضل أبا معاذ محمد مرابط.

هذا من حسن ظنك بأخيك.

فاللهم وفقنا جميعا للعلم النافع والعمل الصالح.

بارك الله في جهودك أخي الكريم، ونفعك ونفع بك، وفي انتظار المزيد.

بارك الله فيك و في علمك أخي الكريم

وفيك بارك الله أخي الفاضل مصطفى

وأنت كذلك أخي الكريم يوسف

وعلمنا الله جميعا ما ينفعنا.

جزاك الله خيرا

بارك الله فيك وفي علمك

جزاك الله خيرا أخانا بوفلجة

أبو عثمان سعيد مباركي


عبد الله سنيقرة


بحوصي بحوص

بارك الله فيكم جميعا إخوتي الأفاضل, ورزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

نتف من العلم الشريف أنارت صفحات منتدياتنا الطيبة، ولصاحبها أخوات
فجزاك الله خيرا أيها الفاضل

بارك فيك أخانا الفاضل خالد حمودة, وهذا من حسن ظنك بأخيك الضعيف.

دائما أبحاثك رائعة أخي بوفلجة فأسأل الله عزوجل ان يبارك لك في علمك ووقتك

بارك الله فيك أخي محمد الحجيلي, ووفقني الله وإياك لكل خير.